مقالات وأراء

“أحمد إبراهيم” يكتب: ألاعيب “فرج وشهرزاد” مع ” العرافة المقدسة “

علاقتي بالمهندس “محمد فرج ” بدأت منذ أكثر من عقد ونصف تقريباً فهو أحد قيادات حزب التجمع الذي أنتمي له سياسيا وفكرياً؛ وهي علاقة يمكن وصفها في أحسن حالتها بأنها ” من بعيد لبعيد ” فهو الحزبي والسياسي المسئول عن ملف التثقيف والوعي بالحزب وأنا المُهتم بالفن والفكر والأدب ثم بالسياسية بعد ذلك؛ لذا كان يغلب علي أكثر لقاءات الصدفة التي تجمعني به بعض المناقشات السياسية والفكرية المتعلقة بالشأن العام .

وكانت المفاجأة عندما أهداني هذا المثقف العميق والسياسي الأشر مجموعة مميزة من الأعمال  المسرحية التي خطت كلها بحبر قلمه؛ والتي هي من بنات أفكاره وعصارة تجربته وخبراته الإنسانية والفكرية العميقة المصبوغة بعَرق الناس وكدهم وآلامهم وآمالهم .

مفاجأة أذهلتني وأسعدتني؛ فما أجمل أن تكون فنانا عظيم الثقافة عميق الفكر؛ فلا شك أن هذا الفكر وهذه الثقافة سينتقل بإبداعك الفني والأدبي والدرامي لمناطق أعمق بكثير مما هو مرئي ومتاح حولنا والذي وصل بنا لحالة من التهريج الفني والإنحدار الفكري والأخلاقي إلي ما يسمي بالمهرجانات التي يؤديها زمرة من المهرجين والبهلونات ؛ بل إن هذا العمق الفكر والثقافي سيخلق حالة تفسيرية وتأويلية ورؤى طاذجة لما يدور ويحدث حولنا وهي الأهمية الكبري للفن خصوصا وإن تمت بمهارة وحرفية بعيدة عن المباشرة .

ليس هذا فقط ما أسعدني عندما تعرضت لأدب وفكر هذا المثقف والمبدع الدرامي، فلقد كانت ثاني مفاجآت “فرج” الكبري هي تمكنه وتملكه لناصية نسج الشخصيات ونحتها، فشخصيات  مسرحياتة جيدة البناء ومن “روح ودم” بل إنك بعد أن تتمم قراءة أي من أعماله من الوارد جداً أن تسأل نفسك ألم يصادف أن قابلت أحد هذه الشخصيات من قبل ؟

هذا ما يتكرر مع عددٍ من الشخصيات مثل شخصية “كريم الدولة” بمسرحية”حكاية الكهف” هذا العمل “الفنتازي” القائم علي فكرة عفوية شيقة طازجة حيث ظهر لمواطن كهف فجأة ، كهفٍ حاصر المواطن بجبل من الهموم والآلام والمشاكل فجأة ودون ذنب قدمه، وكذلك شخصية “الشاب” و “المحقق” بمسرحية “البراميل” هذه الصرخة الفنية التي تطالب بالحرية والعدل والذي كتبها مطلع العام ثمانين من القرن الماضي .

وأيضا شخصية “الشيخ أحمد” بمسرحية “ليلة إختفاء أبو الهول” هذا النص الدرامي اللازع الذي يتعرض فيه “فرج” بسخرية لحالة الزيف الإعلامي وثقافة المانشت وأيضا تشوه دعاة التدين الظاهري وتشوشهم، نصا مسرحيا ممتعاً هادفاً شَرح فيه المجتمع بهدوء ودون ضجيج أو تعَالي فني أو فكري علي الجمهور العادي .

وأخيرا درة التاج النص المسرحي البديع “زرقاء اليمامة” وهو عملا درامياَ يبوح لنا بأن الكاتب “محمد فرج” مُبدعاَ قادراً فاهما لمعني الدراما وكيفية إستثمار الأسطورة في عملا مسرحيا له أبعاد إجتماعية فكرية سياسية، بل إنه يمتلك من التمكن والدهاء ما يعينه علي خلط الأزمان والأسطورة والطرفة بعضها ببعض في مزيج قيمي فني يعبر عن تسلط الأجهزة وغبائها دون أن تستيطع أن تدينه أو- تمسك عليه غلطة – بل إن “فرج” بهذا النص المسرحي يقول لنا بالصوت الحياني .. “أنا أفهم الفهماء وأعرفهم بفن المسرح بل أنا الداهية الفنية التي تجيد استثمار الأسطورة وصوغها من جديد للخروج بقيم ومعاني جديدة” .. وهو بالطبع ما يستلزم جهداً خارقاً من الفهم والاستيعاب والموهبة النادرة للخروج بالجيد والجديد من أسطورتي شهرزاد وزرقاء اليمامة .

شهرزاد
  • فرج وشهرزاد وزرقاء اليمامة

أيتها العرافة المقدَّسةْ ..

جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ

أزحف فى معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة

منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.

أسأل يا زرقاءْ ..

عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء

هذه بعض من أبيات قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ” للشاعر “أمل دنقل” والتي أستوحي أشعاره من حكاية الأسطورة الخالدة زرقاء اليمامة ، والتي تعد من أشهر الشخصيات العربية القديمة، وهي سيدة تتميز بالنظر القوي الخارق وكان لها الفضل في التغلب على الأعداء والانتقام منهم .

و “زرقاء اليمامة” هي سيدة اسمها “عنز” من قبيلة جديس عرِفت بين الجميع بجمالها، وشبهت بالقمر ليلة البدر، وعاشت عنز في اليمامة بمنطقة واسعة كان يطلق عليها جو .

  • حكاية “الزرقاء”

كانت لـ”عنز” المقدرة علي أن ترى على مسيرة يومين، ويقال بأن هناك رجل يسمي “رياح بن مرة”، كان وزيراً لملك يسمي “حسان بن نافع” ، وفي ذات يوم قال رياح لملكه: إن لي أخت متزوجة بمدينة  جديس، وتدعى “زرقاء اليمامة” يمكنها رؤية شخص من مسيرة  يوم وليلة كاملة، وإني أخاف أن تحذر قومها وتنظرنا، فيستعدوا لنا.

فأمر الوزير رجال قومه بأن يقطعوا أغصان الأشجار ويتخفوا خلفها، للإحتيال على ” زرقاء اليمامة” وقوة حدسها وحدة بصرها، كما أمرهم الملك بتنفيذ هذا ليلاً حتي لا يدري أحداً ذلك، ولكن رياح رد على الملك قائلا:إن نظرها أقوى في الليل، ولكن الجيش سار ليلا، واختبأ  خلف الأشجار المقطوعة. وعندما اقتربوا من قبيلة زرقاء اليمامة .

أتتهم الزرقاء وبلغت قومها: يا آل جديس لقد ذهبت إليكم الأشجار، وأتتكم أوائل خيل حمير وهو جيش الخصوم.

 فما كان جواب قومها إلا أن سخروا منها وكذبوها، ونتيجة لهذا أتتهم جيوش الخصوم  وفاجأتهم وتغلبت عليهم، ودخلوا المدينة واستحوذوا عليها، وسألها ملك الخصوم ماذا رأيتي؟ فقالت: رأيت الشجر وراءه بشر، فما كان من الملك إلا أن قلع عينيها، كي يتجنب خطرها وأمر الجنود بصلبها على باب المدينة.

  • العبرة من أسطورة الزرقاء

يقوم البعض بنكران قصة زرقاء اليمامة من الناحية العلمية، إلا أن هذه القصة قد تم تداولها وانتشارها على مدى التاريخ وكأنها أسطورة من الأساطير، وفي قصة زرقاء اليمامة عبرة هامة، وهي ضرورة لسماع النصيحة التي يقوم بتقديمها الآخرون ذوي الخبرات السابقة، فقد حذرت زرقاء اليمامة قومها مرارا وتكرار بقدوم الأعداء إلا أنهم كذبوها، فكانت عاقبتهم كبيرة و وخيمة.

وقد إهتمت كتب التاريخ بقصة زرقاء اليمامة، فوردت في معجم البلدان لـ”ياقوت الحموي”، بالتفصيل، كما أنها جاءت في كتاب الأغاني لـ”لأصفهاني”، ووردت في كتاب المستقصى لـ”الزمخشري”، وجاءت في العقد الفريد لـ”ابن عبد ربه”، ووردت في خزانة الأدب لـ”البغدادي”، ووردت في مجمع الأمثال لـ “الميداني”، وغيرها من المراجع التاريخية الأخرى.

  • تفاعل “فرج” مع كل ما سبق وإحتفظ بروح الأسطورة وبمعاني ودلالات حكاية الأميرة شهرزاد وأنتج لنا نصاً درامياً طازجا “جديد لانج” في تناول مسرحي يشعرك بأنك لم تتعامل أو تشتبك مع أي من زرقاء اليمامة وشهرزاد من قبل .  
  • المسرحي محمد فرج :

بعيدا عن كون المهندس “محمد فرج” قد أفني عمره مناضلا في محراب العمل السياسي والعام، مختاراً لنفسه شارع اليسار ميدانا ونطاق عمل وجهد إلا أنه من الواضح تماما أننا أمام كاتب مسرحي يتمتع بمميزات عدة ومتنوعة ، فلقد استثمر هذه الأسطورة وأنتج لنا عملا فنيا مسرحيا قيما به العديد من الأبعاد السياسية والإجتماعية .

كما أن هذا الرجل ثقيل الفكر رصين العقل يمتلك حساً استعراضياً وغنائياً وهو ما تجده قاسما مشتركاً بأغلب أعماله المسرحية كما أن “فرج” الكاتب والفنان لديهم من القدرة ما يعجز عنه آلاف المثقفين فهو يقدم لنا الهم الإجتماعي والسياسي وأغلب التناقضات المجتمعية في رداء فني ساخر ممتع أو من خلال الحكي أو الأسطورة مهارة نادرة صعبة الوجود نادرة التكرار .  

وإن كانت جلسات الصدفة هي ما تجمعني بالمثقف والسياسي “محمد فرج” فإن الصدفة أيضا هي من دلتني وعرفتني بهذا الكنز المسرحي .

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights