الحياة مدارس وآراء وكذلك الفنون وبالقلب منها الفن السابع لغة الصورة؛ فهناك من يري أن السينما هي وسيلة هامة للتسلية والترفيه ومنهم من يري أنه من المهم والجميل أن يجمع الفن السينمائي بين الترفيه والجمال والقيمة الفكرية والمعنوية ، وهذا بالطبع هو الأفضل خصوصا في مجتمعاتنا العربية التي تواجه تحديات ومشاكل متجددة والتي يقف علي قمتها تحدي الإرهاب والعنف المسلح ضد رجال الجيش والشرطة وضد مواطنينا العزل.
المنتج الواعي
إن تاريخ السينما المصرية يمتلئ بآلاف الأفلام – 4000 فيلم سينمائي تقريبا – أُنتجت عبر تاريخ قارب القرن الآن ، فأول فيلم سينمائي مصري كان بثلاثينيات القرن التاسع عشر ، والغريب أن من بين آلافات الأفلام هذه ستجد عدد قليلا جداً من الأفلام التي تعبر عن قضايا حيوية ومحورية كالتي تتعلق بتماسك المجتمع وإنسجامه .
ولتسمح لي بأن أفاجئك بأن قضية الوحدة الوطنية مثلا لم تثار إلا بعدد قليل جدا من الأفلام؛ وأراهنك إن تذكرت بضعا منها حتي وإن كنت من مريدي وعشاق السينما كحالاتي ، وحتي ذا الذاكرة النهمة الفُولاذية العاشقة للصورة السينمائية فلن يتذكر منها أكثر من العشر؛ أغلبها أفلام تجارية تناولت مضمون هذه القضية المحورية من بعيد لبعيد وفقط للعب علي وتر إنساني بحت الهدف منه في النهاية هو الشباك والإيرادات التي سيحققها المنتج في النهاية .
فمثلا لن تجد من بين أفلام السينما المصرية أفلاما تتناول قضية الوحدة الوطنية سوي أفلام “حسن ومرقص وكوهين” والطبعة الأحدث منه “حسن ومرقص” وأيضا أفلام “شفيقة القبطية والراهبة وأم العروسة ” بفترة الأبيض والأسود ،وبالفترة الأحدث ستجد أفلام “التحويلة و فيلم هندي والرهينة ” وأخير فيلم ” لمؤخزة ” ولكن هل تري أنها أفلاماً سينمائيةُ حقيقة تعبر عن مضمون هذه القضية الجوهرية صراحة لا ، إلا باستثناء فيلم “الناصر صلاح الدين” والذي يقف خلفة كتيبة من عمالقة صناع الفن السينمائي علي رأسهم المخرج السينمائي العالمي يوسف شاهين ومن خلفه سيدة عظيمة خلدتها السينما هي المنتجة آسيا .
صحبك ولا أخوك
أما الفيلم الروائي القصير ” صندوق خشب ” والذي أنتجته بوعي “كلية الإعلام” بجامعة القاهرة عام 2009 ؛ والذي يقف خلفه عصابة من الفنايين المبدعين ، بتعرضهم في وقت مبكر جدا لمضمون الوحدة الوطنية ووحشية ورعب الجماعات الإرهابية المسلحة ، دون ضجيج وبشكل رقيق وحساس جدا ، وبسيناريو متقن كتبه السيناريست “أحمد سعيد” من خلال ثلاثة عناصر تمثيلية محورية ” سائق” الفنان “طارق عبد العزيز” ؛ والذي يظهر له فجأة شابين بأحد الطرق السريعة – الممثلين ” حسن عيد و أحمد منصف ” – أحدهما يحمل الآخر الغريق في دمه ويحاول نجدته إثر حادث إرهابي جبان ، من هنا يبدأ تصاعد الأحداث علي مدار عشر دقائق في محاولة من الإثنين لإنقاذ هذا الشاب المصاب ؛ دون أن نعرف أياً من أسماء الثلاثة أو ديانته أو حتي هويته إلا بآخر الفيلم نتعرف علي هوية أحدهم صدفة .
ودون سرد لتتابع القصة وأحداثها إستطاع السيناريو المحكم الدقيق البعيد عن الثرثرة بجملة حوارية وحيدة علي لسان السائق أن يضع النقط فوق الحروف وأن يلخص الهوية المصرية؛ التي يعد الدين أحد ركائزها المتعددة بجملة ” صاحبك ولا أخوك ..؟” التي نطقها السائق عفوية ؛هذه الجملة التي لخصت دراما الفيلم وأيضا دراما الواقع الحياتي المصري ، فأي تأمل لوجوه المصريين وسلوكهم بمواصلتهم وبأماكن عملهم وحتي في لهفتهم علي بعضهم البعض وقت الأزمات والمحن الصعبة ، لن تجد فارقا ولو طفيفا بالشكل أو بالسلوك أو حتي بطريقة ولهجة الكلام، وأتحدي أيضا إن عرفت إن كانوا أصدقاء أم أخوة ، ألم تثبت الأبحاث الجينية العلمية أن المصريين أكثر شعوب الدنيا تماثلاً جينياً وراثياً ..!! ، هي حكمة من الله وبالطبع عبقرية لهذا الإنسان الذي تعايش وتكيف مع كل المحن والأزمات .
إن المشاركين في صناعة الفيلم نفسه مصريين يختلط ويمتزج عرقهم وجهدهم الذهني والبدني سويا دون تميز ديني ‘ فالدين عندنا بمصر هو أحد مكونات الشخصية أو بالأدق الهوية الإنسانية ، والهوية المصرية علي الأخص ترتكز علي أعمدة أو ثقافات عدة لا يمكن حصرها بدقة ، ودائما ما يكون حصان طروادة ولعبة الكارهين لمصر التركيز علي وتر الاختلاف في الدين مع أن الهوية واحدة وعقائدنا تكمل صورتنا السمحة الطيبة، ألم يعلن وزير دفاع اسرائيل – موشية ديان – بعد هزيمة العرب في حرب الأيام الستة ؛ عندما قال صراحة ” إننا إن استطعنا إسقاط عسكر ” جمال عبد الناصر ” وتصعيد تيار مدني إلي سدة الحكم يقوده الإخوان المسلمون في مصــــر ؛ فسوف تتنسم إسرائيل رائــحة الدماء في كل بقعة من أراضي مصر ؛ فلتكن هذه هي غايتنا وحربنا الفكرية بمســاعدة أصدقائنا الأمريكان) .
سينما المعرفة
أن نعرف بلادنا ونقترب من التحديات التي تطرأ عليها بالثقافة والفكر والإبداع الفني والأدبي هو محور الوعي وهو الطريقة الأمثل لمناقشة وإدارة حوار مجتمعي نتشارك فيه جميعا من خلال سحر الفنون والآداب التي تقدم لنا قضينا دون إملاءات أو بينات أو خطابات عنترية تقابل برد فعل عكسي .
فأنت علي الرغم من الإنتاج السينمائي المصري الضخم وأيضا المهرجانات السينمائية المتعددة والكثيرة؛ لن تجد أفلاما حقيقة تعبر عن قضايانا المحورية والهامة ، والسؤال الملح الآن لماذا لا يتم تقديم الدعم للأفلام الحقيقة حتي نتمكن من مواجهة دعاوي التخريب والتشويه والتضليل ولو حتي بالدعم اللوجستي وتوفير التصاريح بالمجان؛ هذا بالإضافة لصناعة قسم خاص علي هامش كل مهرجان يكون مسئولا عن الأفلام التي تتعرض للقضايا المصرية الهامة قسما بعنوان “سينما المعرفة” .
التكنيك
وعلي الرغم من امتلاء هذا الفيلم الروائي القصير “صندوق خشب ” بالعديد من القيم الإنسانية والحياتية العليا إلا أنك لا تستطيع أن تغفل القيم الجمالية والفنية بهذا الفيلم والتي تعد داعما كبيرا في نجاح الفكر وإنتشاره ، فلقد إستطاع مخرجوا العمل من طلبة كلية الإعلام بالتعاون والتفاهم مع مدير التصوير “تامر جوزيف” التعبير عن كل مشهد بحرفية عاليا خصوصا تلك المشاهد التي تم تصويرها بالمسجد والكنيسة فلقد كانت الإضاءة معبرة جدا ومناسبة للجو الروحاني بهاتين البقعتين الغالتين عند كل متدين حقيقي ، هذا بالإضافة إلي القطع السلس الناعم بين المشاهد وكذلك تمتع الفيلم بالصحة الفنية فهو يخلو من كافة عيوب الفيلم القصير سواء تلك التي تتعلق بالصوت أو التمثيل أو الإخراج والصورة السينمائية إجمالا .