“أحمد إبراهيم” يكتب: كوكتيل جلال ..!!!
إخلاص خالد جلال لخشبة المسرح، أمراً نادراً ملفتاً، خصوصاً عندما تري أمامك موهبة وطاقة فنية قادرة علي الكتابة والتأليف والتمثيل والإخراج في أكثر من وسيط، فبريق الشاشة البيضاء أو حتي الفضية لم يأخذ من عشق جلال للمسرح وللمسرحين ذرة واحدة أو حتي أقل من فمتو ذرة ..
فنحن أمام رجل يري في المسرح حياته وكل دنياه، يذهب إلي السينما والتلفزيون زائراً – غالباً بدعوة من نجم يحتل مكانة فنية هامة بهذين الوسيطين الأوسع إنتشاراً والأكثر بريقاً وثرائاً – فجلال أصبح علامة وبراند فني ومسرحي مميز له نكهته ومزاقه الخاص ..
.. كل هذا بالتأكيد لم يأتي من فراغ فمنذ أن أسس جلال أستوديو الممثل، وأعماله المسرحية تتابع واحدة تلو الأخري، وكأنها سنفونية عذبة صاخبة عميقة هادئة ..
كوكتيل جلال
بالطبع لم أشاهد كل إنتاج جلال المسرحي، فمسألة الحصول علي دعوة أو تذكرة لإحدي مسرحياته أمراً شاقاً يحتاج منك جهداً كبيراً؛ من إنتظارٍ طويل في طابور ممتد يمتلأ بالشباب والشبات والرجال والنساء والعاجز وأيضاً الأطفال، إضافة لمشقة الحصول علي مقعد مميز بقاعة خالد المسرحية لمشاهدة عمله بدقة وتركيز للوقوف والوصول للب أفكاره وأهدافه الدرامية الفكرية ..
ولكن جل مسرحيات جلال تشير إلي أن الرجل يميل لفكر ومنهج القسوة في أغلب ما يقدمه علي خشبة استديو الممثل .. مع إضافات وبهارات فنية خاصة به هو فقط ..
فجلال يمتلك خفة ظل درامية نادرة، يصنع بها مواقف وآحايل تجعلك تبكي وتضحك في آن واحد، فهو يصبغ شخصياته بطبائع وتصرفات تبقيك علي إتزانك النفسي والفكري والعاطفي معها، بالرغم من أنه أضحكك وأبكاك علي الظالم والمظلوم في نفس الوقت واللحظة، ولكن دون أن تحب الظالم أو تستخف بالمظلوم أو تكرهه ..
تركيبة درامية مسرحية نادرة لا أعرف بالضبط كيف اقتنص جلال المُجد ملامحها وتفاصيلها من كبد الموهبة والإبداع ..
كما أن مسرح جلال وجل أعماله بقاعة استديو الممثل، لا تعرف معني خطوط الحركة المسرحية التقليدية، فلن تجد له خطاً حركياً واضحاً يتحرك به هذا الممثل أو ذاك .. ولكنك ستجد تحركات ممثلينه علي هيئة بضع خطوات تمثل قفزات يحتل بها الممثل بقعة متميزة بالفضاء المسرحي لقاعة العرض، يتلو من خلالها ما يريد أن يقدم ويخبر به جمهوره، بمساعدة بعض الإضافات الدرامية الأخري كالموسيقي والإضاءة والمؤثرات ….
كما أن الملابس والإكسسوارات لدي خالد جلال، تجعلك تتسائل دائما لماذا هذه البقعة الحمراء علي الكتف الأيسر لذاك الممثل ؟ .. أو ما سبب انتشار هذه الرتوش البيضاء علي ملابس هذه الممثلة ؟ .. هو دائماً ما يصنع لوغريتمات درامية ذهنية ويطلب منك أن تشاركه في إيجاد حلولها ..!!
عصافير بحجر
.. ليس هذا فقط ما يميز مسرح خالد جلال، ولكن أي مثقف أو صاحب فكر سيدرك من أول لحظة مسرحية أنه أمام عمل درامي واعي، يضرب عدة عصافير بحجر واحد، مسرح يطرح عدة قضايا يتم مناقشتها بفهم وعمق شديد، وكذلك بنشاط وحماس شبابي مغلف بخفة ظل منعشة، وهذا ما يحدث ويدور باسكتشات مسرحية “حاجة تخوف” التي تطرقت لموضوعات وقضايا إجتماعية وإقتصادية وسياسية آنية حرجة .. لا شك نسج تفاصيلها جوقة من المواهب المثقفة المفكرة يقودهم فنان واعي مسئول ..
فمسرحية “حاجة تخوف” قدمت العديد من الأنماط الإنسانية السائدة الآن بمجتمعنا والتي تنتهج سلوك شاذ بعيد عن ثقافتنا وأخلاقنا العروبية الإسلامية ..
.. فمجموعة البشر التي ضلت طريقها إلي البيت المهجور المخيف المسكون، هي نموذج لإنسان اليوم ولكل نقائصة وشروره .. نعم 50 شخصية تتحرك في الفضاء المسرحي لقاعة العرض، تقدم لك نماذج مؤلمة لمعاني موجعة .. ” كالهجر والجحود والخيانة والإنحدار الثقافي والأخلاقي والحاجة والعجز الإنساني وغيرها ..” كل هذه المعاني يقدمها جلال وجوقته المسرحية في غلاف درامي عميق ومنعش وصاخب، فأنت عزيزي القارئ من الصعب أن لا تجد بحكايات دراما “حاجه تخوف” حدوته تتماس مع كيانك ووجدانك الداخلي أو حتي لم تصدفها بحياتك من قبل ..
الكوميديان التلتين
.. وبلا شك عملية تطوير الأداء التمثيلي لـ 50 ممثل علي خشبة صغيرة لقاعة مسرحية محدودة، أمراً أقرب للخيال، فتحقيق كل هذا الصدق والإقناع التمثيلي، تحدي كبير، لا يستطيعه إلا فنان موهوب، فكل هذا الإتقان الفني والتمثيلي وراءه جهد عظيم ودراسة عميقة لطبيعة هؤلاء الممثلين البشر ثم بعد ذلك فهم جيد لطبيعة أدوارهم، ثم بأيدي قادرة محنكة صُبغت هؤلاء الممثلين الشبان بألوان شخصياتهم المسرحية وطبائعها، وحقيقة لقد أجاد الكل .. ولكني أذكر من بينهم الفنانة لقاء الصيرفي التي قدمت شخصية الصماء البكماء التي تعيش مع أمها المسنة الفقيرة التي تموت لعدم قادرة علي شراء الدواء لإرتفاع ثمنه، والتي لا تستطيع التواصل مع ضابط النجدة تلفونياً لأنها خرساء، إشارات عدة فنية ودارمية وسياسية واجتماعية واقتصادية بهذه اللوحة الفنية المبهرة، والتي أجادت فيها الفنانة الشابة في التعبير الفصيح عن مكوننات هذه الشخصية وأزمتها ومأزقها..
وكذلك الفنانة شهندة علي التي قدمت الحرمان الأنثوي نتيجة العنوسة وتعثر مشاريع الزواج بسبب المغلاة في المهور والطلبات وغيرها .. أداء ناضج لشخصية مأزق تتكرر مشاهدتها في عالم اليوم .. وأيضاً الفنانة هبه محمد والفنان محمد سراج، الذي قدما تنوعات وأدوار مختلفة بصدق ومهارة، بالرغم من أدوارهم كانت الأكثر تعقيداً وصعوبة فسراج مع التمثيل الرشيق، أيضاً يجمع بين غناء المهرجانات والغناء الصعيدي ..
وكذلك الكوميديان التلتين الفنان ” أحمد حسام” الذي قدم العديد من الأدوار والتنوعات ولكنه أضحكنا بلمساته الكوميدية اللطيفة المفاجأة، فهو بحركة أو إيماءه بسيطة أثناء سيرة في خط أفقي مستقيم بالفضاء المسرحي يستطيع أن يضحك كل من بالمسرح .. طاقة كوميدية هامة .. استثمرها جلال الاستثمار الأمثل في عمل ناجح فنياً وفكرياً ودرامياً .. ولكني كمتفرج قبل كل شئ .. أتمني أن أري لهذا الكوميديان الشاب عملاً تاماً كاملاً يتحمل مسئوليته ونعرف منه مدي موهبته وقدراته .. وأيضاً نكسب ممثلاً كوميدياً جديداً .. وفناناً واعياً مثقفاً مضحكاً …!!!