أزمة قناة السويس تتجدد مع توجه القاهرة لرهن عائداتها
تخشى قوى المعارضة في مصر من نجاح الحكومة في تمرير مخطط يقضي برهن عائدات قناة السويس، في ظل أزمة اقتصادية خانقة تعيشها البلاد، وحاجة الحكومة إلى تسديد نحو 32.8 مليار دولار كديون خارجية في العام الجاري.
أثارت وثيقة صادرة عن مجلس الوزراء المصري تحدثت فيها عن استراتيجية الاقتصاد حتى عام 2030، جدلا سياسيا لتطرقها إلى إمكانية إصدار “سندات توريق” مقابل جزء من عائداتها الدولارية المستقبلية، لجمع نحو عشرة مليارات دولار، ما تسبب في تذمر قوى معارضة تشككت في أن تكون الوثيقة مقدمة لرهن عوائد قناة السويس لجهات أجنبية.
وفشلت تفسيرات مسؤولين حكوميين في إقناع الرأي العام المصري والأحزاب المعارضة اليومين الماضيين، بمضمون إيجابي في الوثيقة وأنها لم تتطرق صراحة لقناة السويس، كمرفق استراتيجي وأن الخطة تستهدف تعظيم الاستفادة من بعض القطاعات التي تجلب عوائد دولارية لاستخدامها في تحسين وضع الاقتصاد وحل أزمة نقص العملات الأجنبية لسداد الديون.
ونفى مسؤولون سابقون، بينهم شريف سامي رئيس هيئة الرقابة المالية السابق، إمكانية التوريق على إيرادات الدولة من السياحة أو المصريين في الخارج لأنها ليست ثابتة، مؤكدا أن أهم الأصول قد تكون في حصص الحكومة بمشروعات بترولية أو تعدينية أو ما يرتبط بالموانئ أو بعض الأنشطة الخاصة بقناة السويس، وهي تصريحات عمقت ورطة الحكومة بشأن القناة.
وأعاد معارضون التذكير بالأزمة التي حدثت منذ حوالي عام، وارتبطت بتمرير مجلس النواب مشروع قانون تقدمت به الحكومة لتأسيس صندوق تملكه هيئة قناة السويس “يسهم في تحقيق التنمية المستدامة في إيرادات الهيئة”، وأجاز لهيئة القناة القيام بشراء أو بيع أو تأجير واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها لصالح مستقبل الهيئة، ما عرض الحكومة لاتهامات آنذاك بأنها تنوي “بيع القناة”.
أنذاك أطل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مدافعا عن فكرة الصندوق، وبدد مخاوف الشارع تجاه تأجير أو بيع بعض أصول قناة السويس إلى مستثمرين أجانب، واصفا من يروجون الشائعات بأنهم يحاولون ضرب علاقة المواطنين بالسلطة، باللعب على وتر حساس يرتبط بتفريط الدولة في مرفق تاريخي.
وتعتقد دوائر سياسية أن رحيل الحكومة المصرية الحالية مسألة وقت، لكن هناك توجها لتقوم باتخاذ القرارات المرفوضة شعبيا، وبعدها يكون رحيلها مطلبا عاما، ثم تأتي حكومة تسير على منوال القرارات التي تمّ اتخاذها. وأمام اتساع نطاق الغليان في صفوف المعارضة وقطاعات من المواطنين، من غير المتوقع أن تتمادى الحكومة الحالية في الاقتراب من الخط الأحمر، قناة السويس.
ومع أن الحكومة لم تتطرق بالتصريح أو التلميح في وثيقتها لقناة السويس، إلا أن ندرة مصادر الدخل بالعملة الأجنبية التي يمكن استغلالها في التوريق تدفع البعض إلى التأكد من صحة شكوكهم، فالدولة لا تملك مصادر منتظمة تجلب لها الدولار سوى قناة السويس والسياحة والمصريين العاملين في الخارج والصادرات والاستثمارات المباشرة، والقطاع الحيوي الوحيد بينهم هو القناة.
وأقر مساعد رئيس الوزراء المصري في تصريحات إعلامية له بوجود فريق يرى أن التوريق خط أحمر يجب عدم الاقتراب منه، وتطرق إلى رأي آخر يعتقد أن التوريق “حلّ لا غنى عنه لمواجهة الأزمة الضاغطة الحالية لضمان استدامة الاقتصاد”، أي أن الحكومة نفسها غير مطمئنة للخطوة، وهيئاتها منقسمة حول خطة التوريق.
ويسعى النظام المصري بشتى السبل لتجاوز الأزمة الاقتصادية، وأصبح مطالبا بتجاوز العقبات المتزايدة مع تنامي الانتقادات بشأن الطريقة التي تحاول الحكومة بها حل الأزمة المالية، باستسهال الخصخصة وبيع أصول الدولة، والتفكير في الاستفادة من مؤسسات حيوية، مثل قناة السويس، لسداد الديون المتراكمة.
ووفق بيانات البنك المركزي المصري يتعين على القاهرة سداد نحو 32.8 مليار دولار ديون خارجية العام الحالي، ونحو 9.5 مليار دولار أخرى تمثل جزءا من أقساط الديون والفوائد قصيرة الأجل خلال النصف الأول من العام الجاري، ويفترض سداد الجزء الأكبر من هذه الديون خلال شهري فبراير ومارس.
ويقول متابعون إن الحكومة بالغت في الاستدانة للإنفاق على مشروعات قومية كبرى، ولم تراع جيدا حجم الأزمات الاقتصادية التي نجمت عن تطورات إقليمية ودولية وأرخت بظلالها على استمرار البرنامج الذي كان يخطط له الرئيس السيسي، لدرجة أن مسؤولين أشاروا قبل أيام إلى أن جزءا من أسباب أزمة انقطاع الكهرباء باستمرار هو كثافة المشروعات القومية وعدم تحمل الشبكة الكهربائية للتوسعات العمرانية.
ويسبب ارتباك الحكومة في وضع نفسها في مأزق سياسي حرجا أمام قوى المعارضة، لأنها تفشل في تبرير خططها أو تمرر رؤى تثير الشكوك في أهدافها قد تمس هيبة الدولة وتضعها في موقف الدفاع، وهو ما حدث أخيرا في تصدير صورة قاتمة عن النظام وأنه سيقوم برهن جزء من إيرادات قناة السويس.
وشن حزب المحافظين (معارض) هجوما على الحكومة، الأحد، واتهمها بأنها تمهد الطريق للتخلي عن قناة السويس بسبب إخفاقاتها الاقتصادية، محذرا من أن توريق المصادر الدولارية يعنى إصدار سندات للبيع بضمان الموارد المستقبلية للدولة.
وكشف أمين عام حزب المحافظين طلعت خليل لـ”العرب” عن تنسيق مكثف بين القوى السياسية المعارضة لتشكيل جبهة موحدة ضد مخطط الحكومة لرهن إيرادات قناة السويس، لافتا إلى أن ما يحدث “كارثة تستوجب إقالة المسؤولين عن الملف الاقتصادي، ونسف أية استراتيجيات تهدد مصرية القناة”.
وأضاف طلعت خليل، وهو مقرر لجنة الدين العام في الحوار الوطني، أن الشعب المصري لا يمكن أن يصمت على خطة الحكومة ترويق إيرادات القناة، لأنها فاقدة للمصداقية وإجراءاتها مشكوك فيها، لذلك ستتحرك قوى المعارضة ضد هذا المخطط مدفوعة بوعي الشارع وغيرته على مؤسساته التاريخية والوطنية.
وعلى الرغم من قناعة نسبة كبيرة من المصريين أن الجيش لن يوافق على رهن مصير قناة السويس بأي جهة أجنبية أو استثمارات تؤثر عليها كمرفق مرتبط بالأمن القومي، لكن هناك شريحة تميل أيضا لتصديق أي شيء مرتبط بالحكومة، مهما سارعت إلى النفي بسبب تراجع مصداقيتها في الشارع.
وأصبح الرئيس السيسي مطالبا بالتدخل لوأد أزمة مرتبطة بمرفق قناة السويس الحيوي، لأنه الشخصية الوحيدة التي يتعامل معها الشارع بثقة حتى الآن قبل أن تستثمر أطراف معادية هذه الثغرة لدفع الناس للغضب ما يؤثر على الاستقرار.
بغض النظر عما ستؤول إليه الأزمة، غير أنها أظهرت عدم استسلام الشارع ورفضه رفع الراية البيضاء أمام خطط الحكومة لمعالجة الأزمة الاقتصادية، فقد يصمت عن زيادة الضرائب وسوء الأوضاع المعيشية، لكنه لا يسمح بالاقتراب من المؤسسات الوطنية، وربما يتحرك مطمئنا بأنه سوف يكسب المعركة مدفوعا بالاعتماد على الجيش كمؤسسة وطنية لا تقبل المساس بمرفق يمثل مصدر قوة معنوية ومادية للدولة.