” إسكوريال” .. المصري وشارع للفن ..!!!
أحمد إبراهيم
يتمتع طلبة الدراسات العليا بالمعهد العالي للفنون المسرحية بإخلاص شديد لخشبة المسرح، هذا العلم وهذا العالم الذي أصبح عرشه مهدداً بالفناء يوماً بعد يوم بل ساعة بعد ساعة، مع ازدياد التطور التكنولوجي وتسارع وتيرة انتشاره، إلا أن هؤلاء المبدعين الكرام الذين لا يجرون وراء مجد أو نجومية، بل يسعون لصناعة ثقافة وفكر حقيقي، بكرم شديد وعطاء إنساني وفني نادر، ولا يألون جهداً لصناعة إبداع حقيقي جديد متجدد يخدم المجموع والعام ويصب في بؤرة الإنسان، فعلي خشبة مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية مسرح “علي فهمي”، دعوت من قبل المخرجة والممثلة وطالبة الدراسات العليا “إيناس المصري” لحضور عرضها الجديد “إسكوريال”، بالطبع قبلت الدعوة سعيداً لثقتي فيها وفي فنها وفي قدرتها علي انتقاء الطازج الآني، الذي يصب في خانة الفكر والتنوير.
الملك البائس
وهذا ما تحقق بالفعل مع النص المسرحي “إسكوريال” لكاتبه “ميشيل دي جيلدرود” والمولود بالعاصمة البلجيكية بروكسل “1898 ـ 1962″، والذي يعد كاتباً طليعياً ثورياً، مشغولاً بكوامن الإنسان وما يدور تحت جلده وبين أضلعه من تناقضات وصراعات، هذا النص الذي نُقل للعربية بالعام 1966، والذي يعد واحداً من بين أكثر من 60 عملاً مسرحياً لهذا الكاتب عميق الموهبة والفكر.
فبطل هذا العرض المسرحي ومحور أحداثه، هو الملك إسكوريال المستبد الملول البائس اليائس، الذي يسكن قصره وحيداً إلا من زوجته الملكة التي ترقد بانتظار الموت، بالإضافة إلى مهرج وراهب، حيث تبدأ أحداث المسرحية بالملك وحيداً داخل قصره، فلقد أزعجه نباح كلاب بالخارج – قد تكون هذه الكلاب هواجسه وأمراضه الخفية – الأمر الذي أثار حفيظته وأدخله في نوبات غضب، فنادي حراسه ليقتلوها، وتصمت الكلاب ويستعيد الملك الغضوب الملول هدوءه.
هنا يدخل راهب القصر ويطالب بالإذن بدق الأجراس في المملكة وإنهاء حالة الحداد، فيرفض الملك ويتهجم على الراهب وينزع عنه ثوب الرهبنة، ويتهمه بالكذب ويصفه بالكلب المسعور الذي يريد أن يفترسه، ويطرده من القصر واصفاً إياه والشعب بالكلاب الحاقدة، ويتذكر الملك في هذه اللحظة مهرجه الذي يزرع الضحكات داخله، فيناديه طالباً منه أداء حركات بهلوانية تُضحكه، فينفذها بشكل ركيك محاولاً إضحاك الملك لكن دون فائدة، وهو ما يزيد من غضبه ويعنّف الملك المهرج ويطالبه بالنباح والإنبطاح كما الكلب فيرضخ وينفذ، إلا أن إسكوريال الملك الملول البائس لا يرضي، فيبدأ المهرج في سرد حدوتة رمزية للملك والتي يستثمرها لينزع المهرج التاج عن رأس الملك ويرمي به أرضاً ثم ينزله عن كرسيه، فالحدوتة تروى أن سكان إحدى المدن نصّبوا ملكاً منهم على العرش وكللوه بالتاج ووضعوا في يده الصولجان، وصدق هذا المسكين أنه الملك، وفجأة ينزع الشعب عنه التاج والصولجان وينزله عن العرش.
وهنا تزداد شكوك الملك تجاه مهرجه ويطالبه بتبادل الأدوار، فيلعب الملك دور المهرج، ويأخذ المهرج بيده ويجلسه على العرش ويضع التاج على رأسه، ثم يبدأ في لعب دور المهرج.
ويسرد الملك المهرج علاقته بزوجته الملكة التي تحتضر، ويقر بعدم حُبها له، ويعترف لمهرجه الحقيقي أنه عالم بحقيقة علاقته بزوجته الملكة وعشقها له فلقد رآهما معاً.
هنا يصاب المهرج الحقيقي بالذعر ويُقن أن الملك سيقتص ويتأر، إلا أن صوتاً وصراخاً يعلو بالخارج فالملكة قد ماتت.
فينهار المهرج حزناً، ويقتله الملك، وتنتهي المسرحية بموت المهرج والملكة وبقاء الملك، بعد أن ثأر لنفسه من زوجته ومهرجه.
الأنثي والصولجان
إذن النص المسرحي يدور بين ملك ومهرج -فنان- الفنان متصالح بقدر كبير مع ذاته، أما الملك فمهزوم أمام ذاته، فلقد تعرض لخيانة زوجته الملكة مع مهرجه، هذه الخيانة التي قد يكون هو السبب بها لخلل ما بشخصه.
ومن هذا المنطلق تعاملت المخرجة إيناس المصري مع عالمها وفضائها المسرحي، فلقد صنعت بؤرة بقلب خشبة المسرح لتكون محوراً للصراع النفسي بين الملك وذاته وبين الملك ومهرجه – نده الأوحد- مع تنويعات بسيطة في حركة ممثليها وخطوطتها المسرحية ما بين الإرتفاع لعمق المسرح حيث العرش بأعلي الوسط، أو بالنزول لأسفل بعض خطوات تجاه مقدمة المسرح لتأكيد بعض معانٍ درامية كسيطرة الملك وعنفه علي مهرجه الضعيف، وأيضا كنوع من الزخرفة والحلي الحركية التي تحقق الإمتاع وتمنع التكرار، فالنص بطبيعته محدود الشخصيات صغير المدة والزمن – أقل من ثلاثة أرباع ساعة تقريباً – وهو ما يعبر عن تعامل فني متقن مبرر نُفذ بفهم وشياكة فنية.
هذه الشياكة الفنية والقدرة والتمكن المسرحي لم يقتصر علي تحركات الممثلين وإلقائهم المتقن لجمل وحوار شخصياتهم التي تنطق بالفصحى، وما أصعب هذه الأنواع من النصوص، التي تنضح شخصيتها بمواقف وتقلبات تموج بالعنفوان والغضب الشديد، وهو ما يستلزم ممثلين أكفاء وهذا ما حققه الفنان شريف صبحي في دور الملك إسكوريال، والفنان طارق شرف في دور المهرج والفنان محمد الديب في دور الراهب.
هذا بالإضافة للمشهد الأصعب وهو خيانة الملكة لزوجها إسكوريال مع المهرج، والذي قدمته المخرجة والممثلة إيناس المصرية بحيلة درامية ذكية باستخدامها تقنية سينما المسرح، من خلال شاشة بعمق المسرح عرضت عليه فعل الخيانة الملكية، وكيف رآه الملك، كنوع من التأكيد والتوثيق.
إذا نحن أمام فنانة متمكنة قادرة علي استخلاص المعاني وتقديمها درامياً ببساطة وسلاسة وبلاغة فنية ومسرحية، مستخدمة تقنيات ووسائط عدة لتحقيق حيلها وأفكارها المسرحية.
المصري
إن إيناس المصري هذه الفنانة السكندرية بنت البحر نموذجاً لفنانين كُثر، يعملون ويبدعون من أجل الفن وللفن، يؤدون ما عليهم وكأنهم جنود في ميدان الفن، ثم يعودون لبيوتهم هادئين دون صخب أو ضجيج.
وهنا يطرح السؤال نفسه، لماذا إذاً انتشرت ببلادنا كل هذه الأنواع من الفنون الهابطة، ولماذا أختلف ذوق الناس وسلوكهم لما نراه الآن !!؟، فلقد توحش ابن النيل ونسي أنه من أول صناع حضارة بني الإنسان.
لا شك في أن الإجابة هي حالة الظلم الذي وقع عليه، فكل مسئولي ورواد الثقافة بمصر، لم يقدموا له شيئاً يغنيه عن الغث، بل لقد ظلموا صناع الفن والفكر والثقافة الحقيقيين وحاصروهم وضيقوا عليهم، فتركوا الميدان واسعاً فسيحاً لكل ما هو هابط ركيك.
شارع للفن
فمصر لا شك تملك قادة وصناع للفكر والثقافة، فلماذا لا تفتح لهم القاعات وتقدم لهم المعونة والدعم لتقديم فنونهم وإبداعاتهم الحقيقية، الإجابة هناك بشارع شجرة الدر بحي الزمالك العريق.
فبالرغم من حضارتنا القديمة ومسَلاتنا البديعة، النموذج الأوضح لروعة وإتقان الفنان والإنسان المصري، والتي تزين كبري عواصم العالم، في باريس عاصمة النور، وفي نيويورك بحديقة سنترال بارك بالولايات المتحدة الأمريكية، وأيضا علي ضفاف نهر التيمز بالمملكة المتحدة، وباسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية قديماً وبالفتيكان، إذن نحن حاضرون بفننا وروعة إبداعنا في كل مكان، ولكننا غائبون في وعلي أرضنا.
فلماذا لا يوجد إلي الآن شارع للفن المصري، فما أحوجنا لأن يكون بكل عاصمة أو مدينة كبري شارع للفن، يزرع الروح الحلوة والنفس الصافية بداخلنا من جديد، ويقتل أحاييل كل صناع الكراهية والفتنة، وللعلم هذا من السهل جداً أن يتحقق، فمثلا شارع خاتم المرسلين بالجيزة حيث أكاديمية الفنون، والذي يقع علي جانباه عدد ثلاث مسارح هم مسرح سيد دروش ومسرح علي فهمي ومسرح قصر ثقافة الجيزة، بالإضافة لعشرات القاعات، فلماذا لا يكون هذا الشارع بداية ونواة لشارعاً للفن، تنتشر به أكشاك الموسيقي والشعر وكافة الفنون…؟!!