يعد ابن خلدون عَلمٌ من أعلام الحضارة الإسلامية، فكان مؤرخًا ومفكرًا فيلسوفًا وعالمًا موسوعيًَا ورائدًا من رواد علم الاجتماع، وكان وجوده علامة فارقة في تاريخ العلوم الإنسانية.
حياته و نشأته
هو وليُّ الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون الخضرميّ، وهو المكنّى بأبي زيد، حيثُ ذكر ابن خلدون نسبه بهذا الشكل
وقال عن نفسه:”لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة”، كما يتّصل نسبهُ إلى الصحابي وائل بن حجر، الذي قدِم إلى النبي صلّ الله عليه وسلم- فبسط له رداءه، وأجلسهُ ودعا لهُ.
لم يتفق العلماء على أصل ابن خلدون، بل اتخذوا في ذلك مذهبين، الأول منهما يرى أنّه عربي الأصل ويمثله ساطع الحصريّ، أمّا الفريق الثاني فيمثله طه حسين ومحمد عبدالله عنّان، حيث يريان ومن معهما أنّ أصل ابن خلدون أمازيغي، إلّا أنّ ما لا شكّ فيه عراقة نسبه، وعلوِّ شأن قومه وارتفاع منزلتهم، لا سيما بعد أنّ استقروا في مدينة الأندلس، حيث تسلموا مناصب مرموقة في البلاد، وحافظوا على مكانتهم فتنقلوا ما بين رئاسة علمية وأخرى سلطانيّة، فخرج منهم العالم، والأديب، والمؤرخ، والاجتماعي، والحكيم، وكان لابن خلدون نصيب من الرئاستين معاً،
كان والياً لقضاء المالكيّة في مصر، حيث عُرف عنه الزهد والانقطاع عن السياسة في آخر أيام حياته، ومجالسة أصحاب العلم.نشأة ابن خلدون وُلد ابن خلدون في تونس في شهر رمضان من عام 732هـ، وامتيازات الفترة التي نشأ فيها ابن خلدون بانتشار العلم، ووفرة الأدب، لا سيّما أنّه تلقى فن الأدب عن والده، كمّا أنّه التحق بمجالس العلم التي كانت تضُم عدّة علماء كبار كان منهم قاضي القضاة محمد بن عبدالسلام، والرئيس أبي محمد الحضرمي، والعلامة الآبلي، فما بلغ ابن خلدون سن العشرين حتى تميّز بعلمه وأدبه، وعُرفَ بعبقريتهِ، فاستدعاه أبو محمد بن تافراكين إلى البلاط الملكي لكتابة العلامة عن السلطان أبي اسحاق، وهي “الحمد لله والشكر لله” التي تُكتب بالقلم الغليظ ما بين البسلمة وما بعدها، سوآء كانت مخاطبة أم مرسوم، ومنذ ذلك بدأت حياة ابن خلدون السياسيّة.
حياته السياسية
والوظائف التي تسلّمها في تونس بعد أن ولّى ابن تافراكين ابن خلدون أولى مهامه المتمثلة بكتابة العلامة في المراسيم، ومخاطبة السلاطين، خرج مع السلطان أبي اسحاق لملاقاة صاحب قسنطية الأمير أبي زيد، فالتقى الجيشان وكانت النتيجة هزيمة جيش السلطان، مما دفع ابن خلدون للسفر إلى المغرب، وطلب المساعدة من السلطان أبي عنّان صاحب تلمسان الذي رحّب به و أكرمه وقّدم له الحماية، ودعاه إلى مجالس العلم، كما ألزمهُ بشهود الصلوات معه.
ابن خلدون في المغرب
شغل ابن خلدون في المغرب أكثر من منصب، والتي يُذكر منها ما يأتي:
ـ كتابة العلامة عن السلطان أبي عنّان سنة 775هـ: حيث اعتبرت المهمة الثانية من نوعها التي وُكِّل بها ابن خلدون، وهي الكتابة للسلطان أبي عنّان حيث وكّله بها لِِما عرّفه عنه من مجالسته لأهل العلم في المجالس التي كان يحضرها، إلا أنّه لم يستمر في هذا المنصب لوقت طويل حيث عُوقب بالسجن سنة 756هـ لاتهامهِ بأنّه ساعد الأمير محمد لاسترجاع ملكهِ، فمكث في السجن قرابة العامين، إلى أن كتب قصيدة استعطف بها السلطان لإطلاق سراحه فكان لها أثر في نفس أبي عنّان، فوعده أنّ يفك أسرهُ، لكنه توفي قبل أن يفي بوعده.
ـ الكتابة عن السلطان أبي سالم في السّر والإنشاء سنة 760هـ: طلب السلطان أبو سالم ابن خلدون بعدما ساعده في استرداد ملكه للكتابة له، وذلك لسعة علمه وبلاغتهِ، ومهاراته في كتابه رسائل السلاطين، والقدرة على نظم الشعر، وإتقانه لفن الخطابة، وغيرهما من فنون. خطة المظالم: وهي المهمة الثانية التي وُكِّل بها ابن خلدون من قِبل السلطان أبي سالم في أواخر عهده في المغرب، حيث تقوم على القضاء بين الناس، وإقامة العدل، وإعطاء كل ذي حق حقه، وأشار ابن خلدون إلى أنّه أعطى هذه المهمة حقها طيلة تسلمه إيّاها.
ـ الحجابة لدى صاحب بجاية: عمل ابن خلدون حاجباً لدى السلطان بجاية بن أبي عبد الله، ويعتبر منصبه هذا الأول له في الأندلس، ويُعرِّف ابن خلدون الحجابة في المغرب فيقول: “الاستقلال بالدولة والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته”، حيث يُعتبر الحاجب هو المسؤول عن شؤون الناس، إذ يملك في يده زمام أمور الدولة كافّة، وهو الأمر الذي يتطلب أن يكون صاحب هذه الوظيفة على قدر عالٍ من العلم والثقافة والنباهة، وقد اجتمعت هذه الصفات في ابن خلدون، فكان مصدر ثقة للعديد من السلاطين الذين استعانوا به لاسترجاع ملكهم.
ـ الحجابة لدى صاحب قسنطية: تسلّم ابن خلدون الحجابة بقرار من السلطان أبي العباس بعد مقتل أمير بجاية، وذلك لمساعدة ابن خلدون له في استعادة ملكه، لكنّه لم يمكث طويلاً في هذا المنصب؛ لكثرة استعانة الناس به عند السلطان.
ـ السفارة: استعمل سلطان المغرب عبدالعزيز ابن خلدون ليقويّ علاقتهُ مع أهل بلاد ريّاح، فعيّنهُ سفيراً فيها لعلاقتهِ الطيبة مع أهلها، كما شغل سفيراً للسلطان أبي حمّو في منطقة الدوادة أيضًا ليوطّد العلاقة بين أهلها والسلطان، وبعد فترة ترك ابن خلدون السفارة ثمّ خرج إلى أحياء أولاد عريف، ومكثّ في قلعة أبي سلامة قرابة الأربعة أعوام تفرغ خلالها للكتابة، فخرج بمقدمته المشهورة مع أجزاء من التاريخ.
في الأندلس
طلب السلطان أبو عبد الله بن الأحمر من ابن خلدون أن يذهب إلى ملك قشتالة عام 765هـ لإقامة الصلُح بينهما، فرحبّ به ملك قشتالة بشدّة، وطلب منه أنّ يبقى في قشتالة على أنّ يردّ له ملك أجداده، لكنّ ابن خلدون رفض ورجع إلى السلطان ابن الأحمر مبشراً إيّاه بأداء ما أرسله لأجله.
ابن خلدون في مصر
شغل ابن خلدون مناصب ومهمّات عدّة في مصر، وفيما يلي ذكر لبعضها: القضاء الخاص بالمالكيّة:
ـ شغل ابن خلدون منصب قضاء المالكيّة، حيث كان أولها عام 786هـ بأمر من الملك الظاهر برقوق، إذ خوّله لذلك ما كان يملكه من معارف وخبرات، ثمّ أُعيد تعينه بذات المنصب عام 801هـ، أمّا المرة الثالثة فكانت بأمر من الملك السلطان فرج عام 803هـ، فيما كانت الرابعة سنة 804هـ، أمّا المرة الخامسة فكانت عام 807هـ، والتي لم تدم لأكثر من أربعة أشهر بسبب وفاته.
ـ وظيفة التدريس:
عمل ابن خلدون في وظيفة التدريس في مصر في أماكن عدّة، حيث كانت بدايتهُ مدرساً في جامع الأزهر، ثم انتقل إلى مدرسة القمحيّة بأمر من صلاح الدين بسبب وفاة بعض المدرسين فيها، كما شغل وظيفة التدريس في مدرسة الظاهرية أو البرقوقية، كما عمل كمدرس لمادة الحديث في مدرسة صرغتمش عام 791هـ. منصب ولاية خانقاه بيبرس: شغل ابن خلدون هذا المنصب خلفاً لشرف الدين الأشقر، وذلك بعد عودتهِ من أداء فريضة الحج عام 790هـ، بطلب من السلطان الظاهر لتوسعة رزقهُ.
تأثير تجاربه السياسية والحياتية على تفكيره وكتاباته
نشأ ابن خلدون في بيئة زاخرة ومتنوعة، فمنذ كان عمره عشرين عاماً استطاع أن يشغل عدّة وظائف كان منها كتابة السر وخطة المظالم، كمّا شغل عدّة مناصب فاختبر مناصب الوزارة، والسفارة، والخطابة، والقضاء، والحجابة، والتدريس، غير أنّه جرّب حياة القصور المرفّهة، وقسوة الاعتقال والسجن، كمّا عاش في ظل تقلبات سياسيّة عديدة كان طرفاً في بعضها، وقد ساعد هذا التنوع ابن خلدون على اكتساب خبرة واسعة، ومعرفة عميقة كان لهما الأثر في التكوين الفكري والثقافي لابن خلدون، فخرج بكتابه المشهور باسم “العبر في ديوان المبتدأ والخبر” الذي ابتدأ فيه بمقدمته المعروفة، لا سيّما أنّه تنقل بين بلدان عدةّ في العالم الإسلامي وحدود أوروبا،
وكان من البلدان التي تنقل بينها: تونس، والقاهرة، وغرناطة، والقدس، ودمشق، وفاس، وإشبيلية، حيثُ كانت جميعها مدن زاخرة بالعلم والفنون في ذلك الحين، كما أنّ العوامل التي ساعدت في فتح الآفاق حول تفكير ابن خلدون، تواصلهُ مع عدد من العلماء من مختلف الثقافات داخل العالم الإسلامي، ومجالسته لهم وتبارل الآراء والأفكار فيما بينهم، دعتهُ إلى مواصلة القراءة، و مطالعة العديد من الكتب المتوفرة في المكتبات العامة التي كانت متاحة في معظم المدن التي زارها، بالإضافة إلى انقطاع ابن خلدون في قلعة ابن سلامة التي كانت سبباً في تفرغه وصفاء ذهنه ودقة آرائه، كما نفعته تلك الفترة الطويلة التي قضاها في مدينة القاهرة، والتي استطاع خلالها أنّ يُعيد ترتيب كتابهِ العبر، واضافة تاريخ المشرق له، وأضاف إلى مقدمتهِ معلومات مهمة جداً، وصاغ آراء حول طُرق صلاح الأمم وتطويرها، وناقش أسباب انهيارها.
تقسيم مراحل حياته
قسّم علماء التاريخ المراحل التي عاشها العالم ابن خلدون إلى أربع مراحل، وهي:
-المرحلة الأولى: تشير هذه المرحلة إلى أول عشرين عاماً من عمر ابن خلدون، حيث قضاها في مدينة تونس، وهي المرحلة التي جمع فيها العلم، وحفظ فيها القرآن حيث استغرق منه حفظهُ خمسة عشر عاماً، وتعلّم خلالها القراءات وأحكام التجويد، وامتدت هذه المرحلة منذ ولادته عام 732هـ إلى عام 751هـ.
-المرحلة الثانية: امتدت هذه المرحلة خمسة وعشرين عاماً بدءاً من عام 751هـ وحتى عام 776هـ، حيث تتسم هذه المرحلة بإشغال ابن خلدون لوظائف سياسيّة وديوانية عدّة في المغرب، وتونس، والجزائر.
-المرحلة الثالثة: كتب ابن خلدون في هذه المرحلة كتابه المشهور”العبر في المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والأمازيغ ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، والذي يحتوي في قسمه الأول على المقدمة، وامتدت منذ نهاية عام 776هـ إلى عام 784هـ، وتُقسم هذه المرحلة إلى قسمين الأولى قضاها في قلعة ابن سلامة، والثانية في مدينة القاهرة.
المرحلة الرابعة: امتدت هذه المرحلة أربعة وعشرين عاماً، وهي المرحلة التي اشتغل فيها ابن خلدون في وظائف التدريس والقضاء، حيث قضاها في مصر منذ عام 784هـ إلى عام808هـ. دراسات ابن خلدون وآراؤه ابن خلدون وعلم الاجتماع أشار معظم الباحثين أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع، حيث استطاع أن يسبق العلماء المؤسسين لعلم الاجتماع الغربي المعاصر بسنوات طويلة، والذين كان منهم أوغست كونت، وسبنسر، ودوركهاي، وفيبر، كما يرى المؤرخ البريطاني تويبنيّ أنّ تفوّق ابن خلدون ظهر بشكل كبير في مقدمته المشهورة فيما يظهر لقارئها من عمق في البحث، وقوة في التفكير، لا سيّما أنّه استطاع أن يكتب عن علم العمران البشري بطريقة لا يمكن التميز بينها وبين فن التاريخ؛ وذلك لأنّ فهم القواعد والأصول لا يتم إلّا بعلم العمران، حيث يُعرَف عن عِلمَي العمران والتاريخ تقاطعهما في الكثير من المناحي، كما تقاطع المنطق والفلسفة.
أطلق ابن خلدون مصطلح العمران البشري لدلالة على علم الاجتماع، حيث يُعرّف علم الاجتماع بأنّه علم يختص بدراسة الحياة الاجتماعية والسلوك الإنساني داخل الجماعات الإنسانية، ومن أبرز المفاهيم الخاصة بعلم العمران البشري والتي تقود لعلم الاجتماع مفهوم العمران وهو فنٌّ حديث الصنعة، ومفهوم الجاه الذي يظهر عند صاحب المال والسلطة، والعصيبة وهي الرابطة التي تؤدي إلى تماسك الجماعات البشرية، ومرادفها في علم الاجتماع المواطنة، أوالتكافل، أوالتماسك الاجتماعي ومن المصطلحات الأخرى المتّصلة بهذا العلم البدو، والبدواة، والتمدّن وغيرها الكثير.
آراؤه التربوية
أشار ابن خلدون إلى أنّ أهداف التربية هي: ترك مجال واسع للفكر عند الإنسان؛ لينشط ويتجدد، السماح للإنسان بالعيش في مجتمع راقٍ ومتحضر، ومنحهُ حياة طيبة، إعطاء الإنسان فرصة لكسب الرزق، وتنمية الأخلاق الحميدة التي دعا إليها القرآن الكريم، كما يشير ابن خلدون إلى أنّ العلوم التي يكتسبها الإنسان خلال حياته تنقسم إلى قسمين، أولهما العلوم النقليّة وهي العلوم التي اكتسبها الإنسان عن طريق الخبر، دون إعمال منه للعقل إلا في حالات الفروع المتصلة بالأصول، وعادة ما يكون مصدرها شرعي كعلم التفسير، وعلم القراءات، وعلوم الحديث، وعلم أصول الفقة، والتوحيد، والبيان، وعلم الأدب، أمّا ثانيهما فهي العلوم العقليّة وهي العلوم التي اكتسبها الإنسان واهتدى لها عن طريق عقله، كعلم المنطق، والعلم الطبيعي والعلم الإلهي -ما وراء الطبيعة-، وعلم النظر في المقادير كالهندسة، والرياضيات، والفلك.
ورتّب ابن خلدون العلوم حسب أهميتها عند الإنسان على النحو الآتي:
– العلوم الدينيّة، كعلوم القرآن الكريم، والحديث الشريف.
ـ العلوم العقليّة، مثل العلم الطبيعي
ـ العلوم المساندة للعلوم الشرعيّة، مثل اللغة، والنحو، والبلاغة.
ـ العلوم المساندة للعلوم العقليّة، مثل علم المنطق.
منهج ابن خلدون
بدأ ابن خلدون بحفظ القرآن الكريم، ثم درس علوم الحديث والشريعة وقواعد اللغة العربية و الشعر، كما اهتمّ بدراسة الفلسفة التي كانت منتشرة في العصر الأندلسي، حيث تأثر بثقافة الإغريق عامة وبكتابات أرسطو بشكل خاص، وكان لمعلمهِ الآبلي الأثر الواضح في اتباع ابن خلدون منهج شيخه الذي يتمثل في الابتعاد عن الدراسة النظرية، واتّباع الأسلوب العلمي.
منهجه في تحليل الظواهر الطبيعية
اعتمد ابن خلدون في تحليل الظواهر الاجتماعية على منهج معرفة الروابط بين الأسباب والمسببات، لذلك تُعد طريقته طريقة أصيلة وفريدة في دراسة البحوث الاجتماعية، حيث يقوم منهجه على الملاحظة والتحليل والتفكير، ثم التوصل إلى النتيجة، وعلى الرغم من كون ما وضعه ابن خلدون من قوانين وأفكار مصدرها معاصرته لبعض الأقوام لفترة ما، إلّا أنها تُعتبر قوانين ذات أساس متين يمكن الاستعانة بها بكل زمان ومكان؛ نظراً لاتّباعه المنهج السالف ذكره، ومقارنة ما عاصر بما عرفه من أخبار الأقوام السالفة، فيما يُعدّ منهجا الاستقراء والاستنباط خير مثال على ما وضعه ابن خلدون من أدوات يستعان بها في عملية البحث هذه.
منهجه في تحليل الظواهر الأقتصادية
تعدّ منهجيّة ابن خلدون في تحليل الظواهر الاقتصادية مماثلة لطريقتهُ في تحليل الظواهر الاجتماعية، مع استخدامه للأدوات المستخدمة في القضايا الاجتماعية ذاتها، إلّا أنّ هذا لا يقلل من أهميّة النتائج التي توصل لها في دراسة الظواهر الاقتصادية، لا سيّما أنّ الأدوات المستخدمة في دراسة الظواهر الاقتصادية، تمّ التعرُف عليها وتطويرها خلال القرنين الماضيين فقط، فيما تُلخّص الأدوات التي استخدمها ابن خلدون في تحليل
الظواهر الاقتصادية -تبعاً لما جاء في مقدمته- بالآتي:
– دراسة الوقائع الاجتماعية، والروابط القائمة بين الأحداث الاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية، وهو ما يسمى بارتباط الأهداف التاريخية.
ـ ربط السلوك الإنساني والظواهر الاقتصادية بالبيئة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان. توضيح أثر البيئة من حيث الوضع الاقتصادي، وتوفر الموارد الطبيعية، وطبيعة الجغرافيا، على سلوك الإنسان الاقتصادي، ودرجة التخلُف والتقدُم الاقتصادي.
ـ اعتماد التحليل النّظري في وضع القواعد التي تحكُم الظواهر الاقتصادية، بحيث يبدأ بالاستقراء، ثم التحليل ،ثم استنباط القاعدة العامة.
ويعتبر منهج ابن خلدون هو أساس النظرية، والذي تطّور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من قِبل المدرستين الكلاسيكيّة والنيوكلاسيكيّة، حيث ظهر -من خلال التسلسل التاريخي للدراسات الاقتصادية- أنّ ابن خلدون هو أول من أبرز ارتباط الأهداف التاريخية وتطورها، كما أنّه أوّل من أكّد ارتباط العلاقات الاجتماعية الاقتصادية.
آراء المستشرقين في ابن خلدون
اهتم الكثير من علماء الغرب والمفكرين والمؤرخين والمستشرقين بأفكار ابن خلدون، كما أظهروا إعجابهم الشديد به، إلّا أنّ بعضاً منهم عَمد إلى تجريده من أصوله العربية، وإنكار أن يكون مسلماً على الرغم من وجود الكثير من العلماء ممن هم على قدر من الأهمية مساوٍ لقدر ابن خلدون أمثال ابن الهيثم، و ابن النفيس، والبيروني، والرزاي، والكندي، وابن سينا، والفاربي، وغيرهم، أمّا ابن خلدون فقد لقبهُ الفيلسوف الأسباني خوسيه أورتيجا أي جاست بفيلسوف التاريخ الإفريقي، بينمّا يعتبر المستشرق الأسباني بونس بويجس إلى أنّ ابن خلدون من أعظم الشخصيات التي فسّرت التاريخ الفلسفي على المدى البعيد، لذلك يفتخر المستشرق الأسباني ريبيرا بابن خلدون ويدعيّ أنّه ينتسب إلى بلده إسبانيا، وأنّ على الوطن الإسباني أن يكون فخوراً بأعظم انتاج تاريخي في الحضارة الإسلامية.
أمّا فيما يتعلّق بميدان الاقتصاد، فيشير استيفان كلزيو إلى استحقاق ابن خلدون لأن يكون في طليعة علماء الاقتصاد المحدثين إلى جانب كونه في مقدّمة فلاسفة التاريخ؛ نتيجة لفهمه للدور الذي يؤديه العمل والملكية والأجور، وعندما قام الأستاذ ناتانيل شميث بدراسة حول ابن خلدون كمؤرخ اجتماعي وفليسوف، اقترح أن يضعه في صف المؤرخين العالميين أمثال تيودور الصقلي، ونقولا الدمشقي.
ويوضح العالم شميت أنّ ابن خلدون هو أوّل من أفرد التاريخ بعلم خاص، وهو الذي اكتشف مظاهر التاريخ الحقيقي، وشرح طبيعته، حيث يبحـث عن الحقائق والمجريات التي تقع في دائرة التاريخ، ويجمع الظواهر الاجتماعية في حياة الإنسان، وتعتبر المقدمة التي وضعها ابن خلدون أوّل كتاب يؤلف في فلسفة التاريخ، إذ وصفها قائلاُ: “إن ابن خلدون برغم طابعه الإسلامي، فهو فيلسوف مثل أوجست كونت، وتوماس بكل، وهربرت سبنسر”.
كتبه ومؤلفاته الأدبية
قدّم ابن خلدون العديد من المؤلفات والكتب في الكثير من المجالات والعلوم سوآء في علم الاجتماع، أو التاريخ، أو الفلسفة، أو الفقه، أو الحساب، أو المنطق، أو علم الكلام إلي المكتبة العربية ومن أهمّ مؤلفات ابن خلدون ما يأتي.
كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر
هو كتاب كامل اسمه “العبر في ديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والعجم والأمازيغ ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر”، ويحتوي الكتاب في جزئه الأول على مقدمة ابن خلدون المشهورة.
المقدمة
تُعدّ المقدمة من أهمّ مؤلفات ابن خلدون، وتُرجمت إلى العديد من اللغات الأجنية، فنالت شهرة كبيرة عُرف على إثرها ابن خلدون عند الغرب قبل الشرق.
شفاء السائل لتهذيب المسائل
شرح ابن خلدون في هذا الكتاب منهج الصوفيّة وأهم نظريّاتهم، وذكر الرجال المشهورين منهم، وأهم مؤلفاتهم، حيث ألف هذا الكتاب بناء على طلب شريحة كبيرة من الناس.
لُباب المحصل
كتب ابن خلدون كتابه هذا في سن لم يتجاوز العشرين عاماً، ويُعدّ أوّل كتاب يؤلفهُ في حياتهِ، حيث شرح فيه أحد كتب علم الكلام. بالإضافة إلى ما جاء في كتب المؤرخين من عناوين لمؤلفات أخرى مثل: شروحه لبعض مؤلفات ابن رشد، وشرحه لنهج البردة، وشرحه على الرجز في الفقه، وكتاب في الحساب والمنطق، وغيرها.
أهمية مقدمة ابن خلدون
تعتبر مقدمة ابن خلدون عملاً رياديّاً أصيلاً، وبحثاً علميّاً تحليّلياً، كمُا تُعدّ موسوعة تُظهر الكيفيّة التي تطورت فيها المجتمعات البشرية، وتشرح كيفيّة التعامل مع التغيرات التي أدّت إلـى التحرك الاجتماعي، أو التي أدّت إلى انهيار هذه المجتمعات وتأخرها، كمّا تُبين طُرق علاجها، لا سيّما أنّ ابن خلدون وضع كافة أفكاره وجُلّ فلسفته في هذه المقدمة، حيث أدخل علماً جديداً في عصره، وهو فن العمران الذي يُسمى في الوقت الحالي بعلم الاجتماع، والسياسية، والاقتصاد السياسي، والاقتصاد الاجتماعي، وفلسفة التاريخ، والقانون العام، وقسّم ابن خلدون مقدمته إلى ستّة فصول على النحو الآتي:
– الفصل الأول: تحدث فيه عن آثار العمران على البشر، فبيّن أثر اختلاف الأقاليم والهواء، ونوعيّة التربة، والخصب أو الجوع على ألوان البشر وأبدناهم وأخلاقهم.
– الفصل الثاني: تحدث فيه عن الفرق بين طبيعة البدواة و الحضارة، من حيث الأنساب، والعصبية، والرياسة، والحسب، والملك، والسياسة، كما تحدث عن القبائل والأمم الوحشيّة.
ـ الفصل الثالث: تحدث فيه عن تكوين الدولة بشكل عام، وطُرق تسيّر أمورها، كما تحدث عن السلطة والخلافة والمُلك، وذكر مراتب السلطان، وكيفية الحفاظ على قيّام الدولة، ووضّح مفهوم البيّعة والولاية، ووصف قواعد الجند والحرب، وأسباب انهيار الدول.
– الفصل الرابع: تحدث فيه عن البناء، وأُسس العمارة الاسلامية في بناء المساجد، كمّا تحدث عن البلدان والأمصار، وبناء الهياكل العمرانيّة.
-الفصل الخامس: تحدث فيه عن أهميّة الأعمال البشرية، وعن أهمّ الصناعات كالزراعة، والعمارة، والنسيّج، والطب، والوِراقة، والغناء، وغيرها، كمّا تحدث عن طُرق كسب العيش، وطرق توزيع المعاش.
-الفصل السادس: تحدث فيه عن العلوم بكافة أصنافها، وشرح كل علم بشكل خاص، وبيّن تاريخه وشروطه، كمّا أوضح أنّ العلم هو أساس الحضارة، وبيّن فروع العلوم وهي اللسانيّة، والطبيعيّة، والرياضيّة، والطبيّة، أمّا الآداب فهي الشعر، والتاريخ، والإلهيّات، وعلم النفس، وعلم النجوم، والعلوم السحريّة.
ابن خلدون وتيمورلنك
تُعدّ مقابلة ابن خلدون مع القائد التتري المعروف باسم” تيمور لنك” في مدينة دمشق، مـن أكثـر مراحل حياته إثارة،حيث تُظهر هذه الحادثة خبرة ابن خلدون في أساليب التعامل مع الحكام، واستخدام الدبلوماسية للوصول إلى الغاية، إذ يظهر ذلك عندما قرر ابن خلدون الذي كان موجوداً في دمشق أثناء حصار تيمو لنك لها عام 803هـ الوصول إليه راجياً إياه بألّا يستبيح دمشق وأهلها، وألّا يقوم بتدميرها، فتدلى بحبل إلى أن خرج من أسوارها ووصل تيمور لينك، واستخدم ما يعرفه عن هذا القائد من معلومات تشير إلى إيمانه الشديد بعلوم التنجيم والطب، إذ عُرف عنهم ملازمته له لاعتماده الكبير عليهم واستشارتهم في كل ما يقوم به من أمور وما يتّخذه من قرارات، مما دفع ابن خلدون للاعتماد على معرفته بالمنجم والطبيب اليهودي المشهور “إبراهيم ابن زرزر” للتأثير على تيمور لنك، حيث أخبره بأنّ ابن زرزر كان قد تنبأ بظهور تيمور لينك قبل عشرين عاماً، وتنبأ له بأنه سيصبح ذا شأن عظيم، بالإضافة إلى ما استخدمه ابن خلدون من رصانة في الأسلوب ومنطق في الكلام لإقناعه بأنّه كان يتمنى أن يحظى بلقائه منذ أربعين سنة، فأُعجب تيمور لنك بكلام ابن خلدون وطلب منه البقاء، إلا أنّ ابن خلدون الذي لم يرفض طلبه هذا استأذنه للسفر لإحضار أهله وكتبه فسمح له بذلك، فغادر ابن خلدون إلى مصر بأعجوبة.
وفاته
عاش ابن خلدون مراحل حياته الأخيرة زاهداً معتزلاً مفاتن الدنيا، فقد عزم على الانقطاع وترك منصب قاضي المالكيّة، إلّا أنّ حاله في ذلك تراوح بين عزل وإعادة مرات عدّة، غير أنّه استمر في مهنة التدريس والتعليم إلى أنّ توفي فجأة في السادس والعشرين من شهر رمضان عام 808هـ، الموافق 16 آذار من عام 1405م، عن عمر يناهز الثمانية والسبعين عاماً، ودُفن في مقابر الصوفية بمدينة القاهرة.