جملة من التناقضات حملتها المواقف الأمريكية تجاه كلتا الحربين المشتعلتين فى غزة وأوكرانيا. ففى الوقت الذى أنكرت فيه واشنطن على موسكو حق الدفاع عن نفسها أمام التهديدات الأمنية الغربية المتواصلة، غير أنها كانت من أولى المدافعين عن ممارسة الاحتلال الإسرائيلى لنفس ذات الحق، بل وصبغ الشرعية الدولية عليه، فى أعقاب «طوفان الأقصى».
وقد تجلى التناقض الأمريكى فى العديد من المشاهد، التى دللت بوضوح على ازدواجية المعايير التى تمارسها الولايات المتحدة تجاه الوضع فى كل من غزة وأوكرانيا، مما يمكن تلخيصه فى التالى:
تأجيج الصراع، حيث تجاهلت أمريكا مخاوف روسيا الأمنية، التى كشفت عنها صراحة قبل الإعلان عن شن عمليتها الخاصة فى أوكرانيا، لاسيما فى ظل استمرار سياسة الحصار الغربى لها وتهديد سلامة أراضيها، مع توسع حلف الأطلنطى «الناتو» شرقا، بل ووعد كييف بالانضمام للحلف، عقب اسقاط النظام الموالى لموسكو، من ثم خرجت الولايات المتحدة للادعاء بأن العدوان الروسى «غير مبرر».
كذلك كان الحال فى الأراضى الفلسطينية، حيث غضت إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن وغيرها الطرف عن مشاهد القتل اليومى للفلسطينيين فى الضفة واستمرار حصار غزة برا وبحرا، واجتياح المستوطنين للمسجد الأقصى، والعنف ضد الأسرى السجناء، واستمرار التوسع فى بناء المستوطنات، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لتتهم بعدها «المقاومة» عقب «طوفان الأقصى» بممارسة «الإرهاب».
الإدانة الدولية، فمنذ إعلان روسيا بدء عمليتها العسكرية الخاصة فى أوكرانيا فبراير2022، حشدت الولايات المتحدة وحلفاؤها فى الغرب والعالم أجمع ضد موسكو، من أجل إدانة العدوان ومظاهر الدمار والخراب التى خلفها، متهمين الرئيس فلاديمير بوتين والمسئولين الروس بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية.
فى الوقت نفسه، قتلت إسرائيل حتى الآن نحو 35 ألف فلسطينى، غالبيتهم من النساء والأطفال، غير الجرحى والمصابين. أما عن حجم الخراب فى غزة، فحدث ولا حرج، حيث كشفت الأمم المتحدة فى أحدث تقاريرها، عن أن الدمار جعل قطاع غزة «مثل سطح القمر»، مشيرا إلى أن إعادة الإعمار قد تستغرق 80 عاما. وعلى الرغم من اعتراف الرئيس بايدن أخيرا بأن إسرائيل استخدمت الأسلحة الأمريكية فى قتل مدنيين، غير أن ذلك لم يمنع واشنطن من استخدام حق «الفيتو» لمنع وقف إطلاق النار الفورى فى غزة، بل وتهديد قضاة المحكمة الجنائية الدولية لعدم إدانة رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية بنيامين نيتانياهو والمسئولين معه.
العقوبات والمساعدات، حيث صورت الولايات المتحدة العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا على كونها انتهاكاً للقانون الدولى، من ثم استحقت موسكو العقاب على أفعالها «المهددة للإنسانية»، ليتوالى فرض حزم العقوبات الاقتصادية الغربية عليها، وإخراجها من نظام «سويفت» العالمى، ووقف تجارة البترول والغاز مع أوروبا.
فى المقابل، زادت حزم الدعم والمساندة إلى كل من إسرائيل وأوكرانيا، ليس الدعم المادى فقط، لكن والعسكرى كذلك، تلك التى اعتبرتها إدارة بايدن بمثابة استثمار فى حماية الأمن القومى الأمريكى، ودخلت فى خلافات مع الكونجرس من أجل دفعه على إقرارها، رغم الأزمة الاقتصادية التى تواجهها، ونقص مخزون الأسلحة.
إن «عدم التناقض فى السياسة الخارجية، هو ترف لا يستطيع صناع السياسات دائما تحمله»، هكذا قال ريتشارد هاس السياسى والدبلوماسى الأمريكى الكبير، وهو ما تثبته سياسة إدارة بايدن على أرض الواقع بالفعل، لكنها لا ترى فى الأمر أى تناقض، فهى ببساطة تدعم أوكرانيا لإضعاف روسيا، بينما تدافع عن إسرائيل، حتى ولو على حساب أرواح الفلسطينيين، لحماية حليف لا يمكن التخلى عنه. هكذا، فإن المصلحة وحدها هى ما تحكم السياسة. لتنهار صورة أمريكا كشرطى العالم وحامى الديمقراطية والحقوق.