قررت الحكومة المصرية التخلي عن الفوقية التي طبعت سلوكها طيلة السنوات الماضية، والانفتاح على المختلفين معها في الرؤية الاقتصادية لاسيما من الخبراء والمختصين، وذلك بعد فشل جهودها في طمس الأزمة التي تتخبط فيها البلاد.
وأن تيارا داخل النظام المصري بدأ يتبنى توسيع نطاق الانفتاح والعمل على زيادة وتيرة الإصلاحات السياسية وإفساح المجال للحركة أمام المعارضة وإطلاق الباب للمزيد من الحريات، وأن هذه الأدوات وسيلة مهمة لامتصاص الغضب في الشارع، وتأكيد أن الدولة لن تصد تغييرا طالما كان مفيدا.
وبدأ تطبيق هذه الرؤية يظهر في بعض وسائل الإعلام بما يشي بأن هناك تحولا في مفاهيم سادت الفترة الماضية وتخليا عن خطاب كان إقصائيا بدرجة كبيرة، تسببت مخرجاته في انسداد الكثير من الآفاق السياسية والاقتصادية.
وأكد توجه الحكومة المصرية أخيرا لإجراء حوار شامل حول رؤيتها الاقتصادية والتنموية وتحديد أولويات المرحلة المقبلة أنها تريد السير في مسارات متوازية لتخفيف حدة الضغوط الواقعة عليها، والتي جلبت لها منغصات سياسية.
ويشير لجوء الحكومة إلى إشراك متخصصين وخبراء ومواطنين في مناقشة الرؤية الاقتصادية إلى رغبتها في التمهيد للتراجع عن سياسات ذات ارتباط بأبعاد تنموية أثارت قلقا خلال الفترة الماضية، على مستوى أولويات الإنفاق والملفات المفترض الاهتمام بها، ولم يعد أمام الحكومة سوى مشاركة الشارع في ما يتم التخطيط له.
وعكست قرارات سابقة بشأن الأزمة الاقتصادية تشدد النظام في الاستماع لرؤى الخبراء والمتخصصين والتمسك بالسير في اتجاه آخر، وعندما تصاعدت حدة المشاكل تم اللجوء إلى إجراء حوار تتشارك فيه أصوات تمثل اتجاهات مختلفة.
وأدركت دوائر داخل النظام المصري أن الحوار مع من اعتادوا انتقاد الحكومة بسبب تخبط أولوياتها يمكن أن يكون أداة لتخفيف نبرة الغضب، والكف عن اتهامها بالعناد في تمرير رؤيتها تجاه قضايا متعددة من دون اكتراثها بتوجهات المواطنين.
وأظهرت بعض التوجهات الرسمية صدق رؤية خبراء ومتخصصين وكفاءات من المستبعدين من المشهد العام حيال الأوضاع العامة، حيث اعتادوا طرح رؤى عملية لمشكلات عصية على الحل، كانت تواجه بما يشبه العناد من بعض المسؤولين. ويخفف إطلاق حوار بشأن فقه الأولويات من حدة أزمات نجمت عن قرارات أدت إلى احتقان كبير في بعض الأوساط المصرية، فإتاحة الفرص أمام الرأي العام للمشاركة في تصويب بعض المسارات أمر جيد، لكن من المهم التعاطي معه بجدية.
وتجدد الجدل أخيرا بشأن استمرار توجيه الموارد نحو بناء مشروعات قومية في ظل أزمة اقتصادية أدت إلى ارتفاع نسبة التضخم وتفاقم الديون وتحميل الناس المزيد من الأعباء الاضافية، واتسع نطاق التساؤلات حول إذا كان من الأفضل تغيير الأولويات على نحو عاجل أم تواصل الحكومة مشروعاتها على وتيرتها.
وأوحت ملامح لتوجهات حكومية نحو استكمال مشروعات تنموية والتوسع في أخرى، بعدم رغبتها في التخلي عن استفزاز للناس، لأن هذا الطريق يتناقض مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وطبيعة الظروف المعيشية الصعبة لشريحة كبيرة من المواطنين وسط ارتفاعات لافتة للأسعار، وسط تجاهل حكومي للمعالجة وغياب الحلول الناجزة.
وأصبحت المشكلة أن الحكومة مع كل نهج اقتصادي تعلن عنه تبدو وكأنها تسير عكس اتجاه قراراتها بالدعوة للتقشف وحُسن إدارة الموارد، ما أثار غضبا في صفوف مصريين تطالبهم دائما بالصبر وتحمل الأزمات وترشيد الإنفاق، في حين يتم صرف مبالغ ضخمة على قطاعات ترفيهية يمكن تأجيلها إلى حين عبور الأزمة الاقتصادية.
ويؤكد الحوار بشأن ترتيب أولويات المرحلة المقبلة أن الحكومة لم تحقق مكاسب مباشرة من محاولة إقناع الناس بعدم وجود أزمة، وأن سعيها لتجميل الواقع وتقديم صورة مغايرة بأن الأوضاع الاقتصادية ليست بالسوء الذي يراه المواطنون سوف يقود إلى مشكلات أصعب، ولا بديل عن التراجع خطوات إلى الوراء.
ويكشف الاستسلام والجلوس على طاولة واحدة مع المختلفين مع أولويات الحكومة أنها تعاني من ورطة سياسية، ولا تستطيع تجاوز الأوضاع الاقتصادية بالغة الخطورة، وعدم القدرة على وضع خطة ناجزة تنقذ الموقف، لأن النظام اعتاد اللجوء إلى الحوار مع تصاعد التحديات وعدم امتلاك كفاءات ترسم مسارا تصحيحيا. وقال محمد سامي الرئيس السابق لحزب الكرامة (معارض) إن مشاركة متخصصين من خارج أطر الحكومة لإيجاد حل للأزمات المعقدة التي وصلت إليها البلاد ناتج عن عناد أجهزة الدولة التي لم تستمع إلى العقلاء عندما طالبوها بالتنمية الشاملة والتحرك في خطوط متوازية اقتصاديا وتنمويا وخدميا، لكنها اختارت السير في طريق واحد يخدم توجهاتها التي لا تُرضي شريحة كبير من المواطنين.
وأضاف سامي في تصريحات لـ”العرب” أن المطالبات المتكررة من أحزاب المعارضة بالدعوة لمراجعة الأولويات كانت صائبة، ومن الضروري ألا يكون الحوار المرتبط بخارطة الخروج من الأزمة الاقتصادية يستهدف فقط إضفاء حالة شعبوية، فالأوضاع لم تعد تحتمل المزيد من العناد ومحاولة إثبات صدق تصورات الحكومة.
ورغم أنه ستكون من الصعوبة الاستجابة لجميع مطالب الخبراء والمتخصصين حول أولويات المرحلة المقبلة، لكن الاستماع لأصوات ترى المشهد من خارج دوائر السلطة وتمتلك مقترحات واقعية قد يكون فرصة ثمينة لإعادة النظر في السياسات الخاطئة التي عمّقت الفجوة بين النظام والشارع، وقادت إلى ارتفاع مستوى الغضب.
ويعزز تجاوب دوائر رسمية لما ستطرحه نافذة الحوار العام الحديث عن وجود إرادة سياسية للاستماع إلى مقترحات جادة ووجهات نظر عملية بلا عناد أو غطرسة، والكف عن سماع الحكومة لصوتها فقط، حيث أدى التمادي في هذا النهج إلى تبني قرارات أفضت إلى مشكلات مزمنة.
ويخشى متابعون أن يكون التوجه الرسمي معتمدا على الحكومة الحالية التي انتهت صلاحيتها السياسية والاقتصادية، وأن إجراء حوار لمسارات الخروج من الأزمة يرمي إلى استمرارها، ومنحها شرعية للبقاء مع تغيير بعض الوجوه فيها.
وهناك شبه اقتناع في مصر بأن حكومة مصطفى مدبولي فقدت الحد الأدنى من المشروعية السياسية، ومهما فعلت لن تستطيع إقناع الرأي العام بجدوى تصوراتها، حتى لو قامت بمراجعة خططها الاقتصادية بشكل جذري، والإبقاء على أيّ من الوزراء الذين قادوا مشاريع الحكومة لتحميل الناس أعباء مضاعفة هو من قبيل المقامرة السياسية.
وهناك شبه اقتناع في مصر بأن حكومة مصطفى مدبولي فقدت الحد الأدنى من المشروعية السياسية، ومهما فعلت لن تستطيع إقناع الرأي العام بجدوى تصوراتها، حتى لو قامت بمراجعة خططها الاقتصادية بشكل جذري.