فى الجلسة الختامية لليوم الأول من المؤتمر الدولى الذى نظمه باقتدار المركز المصرى للدراسات الاقتصادية يومى 16 و17 أكتوبر الجارى، تمت جلسة عنوانها «الحلقة المفرغة للديون»، بحضور متميز على المنصة من ممثلى أطراف القضية الفاعلين السادة: أحمد كجوك، وزير المالية المصرى، وأليكس سيجور- أوبيرجو، ممثل صندوق النقد الدولى بالقاهرة، وفرانكو برونى، رئيس المركز الإيطالى للدراسات السياسية الدولية، ومحمود محيى الدين، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة.
السؤال المطروح على المتحدثين كان: كيف للدول النامية، بما فيها مصر، أن تخرج من هذه الأزمة؟. إجابتى عن هذا السؤال جاءت فى إطار تقديم الموضوع للنقاش، وهو أيضا موضوع هذا المقال. بالنسبة للمساهمات القيّمة التى أتى بها المتحدثون الآخرون، أدعو القارئ للتواصل مع المركز المصرى للدراسات الاقتصادية للحصول عليها.
ما قلته جاء فى شكل إجابة عن ثلاثة أسئلة فرعية: ما المقصود بتعبير الحلقة المفرغة للديون؟ وما بدائل الخروج من هذه الأزمة؟ وأخيرًا: من المسئول عنها: الدول النامية، أم صندوق النقد الدولى، أم كلاهما؟.
المقصود بتعبير «الحلقة المفرغة للديون» يمكن اختزاله فيما يلى: تلجأ الدول النامية للاقتراض من الخارج، لأن معدلات الادخار لديها أقل من حاجتها للاستثمار لرفع معدلات النمو وتلبية احتياجات مواطنيها.
الإشكالية تبدأ عندما تستخدم هذه الدول ما تحصل عليه من مدخرات أجنبية فى مشروعات لا تدر عائدا كافيا لخدمة تكلفة الدين وسداد قيمته، وتزداد المشكلة تعقيدا عندما تكون إيرادات المشروعات بالعملة المحلية فى حين أن خدمة الدين بالعملة الأجنبية. عندئذ تتفاقم المديونية وتعجز الدول عن الوفاء بالتزاماتها، وقد تلجأ لمزيد من المديونية لسداد الديون القديمة. كبديل، قد تلجأ هذه الدول لبيع بعض ما تملكه من أصول لحل الأزمة فى الأجل القصير، لكن استمرار الفجوة الادخارية وتواضع عوائد المشروعات يؤديان فى النهاية لعودة الأزمة من جديد. باختصار، الخروج من هذه الحلقة المفرغة يتطلب حلولا جذرية، وليس حلولا مؤقتة.
ما هى بدائل الخروج الآمن من هذه الحلقة المفرغة؟ من باب تبسيط الأمور وتقريب المفاهيم، طرحت على الحضور ثلاث استراتيجيات: الاستراتيجية الأولى سميتها استراتيجية شكسبير، الثانية استراتيجية أفلاطون، والأخيرة استراتيجية كجوك. استراتيجية شكسبير مأخوذة من مسرحية «هاملت»: لا تكن دائنا أو مدينا، على خلفية أن هذا يفقدك النقود، والأصدقاء، وإرث العائلة.
هذه الاستراتيجية غير مفيدة للدول النامية التى تسعى لرفع مستوى رفاهة شعبها. هذا الحكم ينطبق أيضا على استراتيجية أفلاطون المثالية، مثل مدينته الفاضلة، وتقوم على كرم مشاعر الدائنين وتعاطف المؤسسات الدولية مع البلاد المطحونة. المؤسف أن العالم الذى نعيش فيه، كما وصفه جيفرى ساكس فى محاضرته أمام منتدى المصرى اليوم الذى عقد يوم 13 أكتوبر الجارى، تحكمه مشاعر العصر الحجرى ومؤسسات العصور الوسطى. المصالح الذاتية هى العامل الحاكم، وما عداها لا يعنى الكثير، رغم التشدق بالحديث عن حقوق الإنسان وشعارات التآخى الإنسانى. هذا معناه أن الدول النامية ليس أمامها إلا استراتيجية واحدة للخروج من المأزق، وهو ما سميته استراتيجية كجوك.
أعمدة هذه الاستراتيجية أن تعمل الدول النامية على رفع معدلات النمو، وزيادة الصادرات، والتأكد من رشادة الإنفاق الاستثمارى العام، وتعظيم كفاءة استخدام الأصول المتاحة فى كل القطاعات. الصعوبة فى تطبيق هذه الاستراتيجية ليست فى توصيف ما هو مطلوب، بل فى تحديد واتباع السياسات والآليات التى أثبتت جدارتها فى التجارب التنموية الناجحة، وهذا موضوع يطول شرحه.
ونأتى أخيرا للتساؤل الخاص بمسئولية الدول النامية والمؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولى، فى كيفية التعامل مع هذه الإشكالية. وفى تقديرى أن المسئولية تقع على كليهما، وليس على طرف واحد. الدول النامية هى التى تتسبب فى الدخول فى حلقة الديون المفرغة لأنها هى التى تقرر الاستدانة فى المقام الأول، وهى من تحدد أوجه استخدام القروض، وهى من تتبنى من السياسات ما يضمن أو لا يضمن كفاءة استخدامها.
هذا لا يعفى صندوق النقد الدولى من المسئولية، فهذه المؤسسة تطرح برامج إصلاحية لتحقيق الاستدامة المالية، وتعيد طرح نفس البرامج كل عدد من السنوات فى نفس الدول، دون أن تعيد النظر فى ملاءة ما تطرحه من برامج. هذه البرامج يعيبها أنها تسعى إلى تحقيق توازن مالى فى الأجل القصير، وأنها تراعى مصلحة الدائنين، وبشكل خجول مصلحة بعض الفئات الأقل حظا فى المجتمع. الخروج من المأزق سوف يتطلب استراتيجية جديدة من قبل الدول النامية وصندوق النقد الدولى، بدءا بمبادرات لتخفيف عبء الديون المتراكمة يتحمل فيها المقرض جزءا من الخسارة، وانتهاء بسياسات وبرامج إصلاحية تقلل من فرص عودة المشكلة من جديد.
باختصار، الحلقة المفرغة للديون فى الدول النامية قضية شائكة، والخروج الآمن منها لن يكون عن طريق مسكنات وقتية للألم. المطلوب تغييرات جوهرية فى السياسات التنموية على المستوى المحلى، وتغييرات مماثلة فى برامج صندوق النقد الدولى، محورها مصلحة المواطن، وليس مصلحة الدائنين.