في عصر تتسارع فيه وتيرة التحولات التكنولوجية، يظهر الذكاء الاصطناعي كأحد المحركات الأساسية للتغيير في سوق العمل العالمي. يشير أحدث تقرير صادر عن جمعية القوى العاملة لتكنولوجيا المعلومات- وهي جمعية غير ربحية أمريكية- إلى الطلب المتزايد على المهارات التقنية، حيث توقعت نمو وظائف البرمجة، تحليل البيانات، والأمن السيبراني بمعدلات تتراوح بين 10-25% في السنوات القادمة.
تتراجع البطالة التكنولوجية في الولايات المتحدة إلى نحو 2%، وهو رقم أقل بكثير عن معدل البطالة العام 4%. وفي المقابل، تشهد الأسواق الناشئة في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا نمواً سريعاً في مجال التكنولوجيا، مما يزيد من الحاجة إلى المهارات التقنية. وهكذا يمثل التوسع في دخول الذكاء الاصطناعي لسوق العمل تحدي وفرصة في الوقت نفسه. بينما قد يؤدي إلى اختفاء بعض الوظائف الروتينية المتكررة، فإنه يفتح أبواب جديدة للتوظيف من خلال التركيز على تطوير المهارات والتكيف مع التغيرات السريعة في سوق العمل.
تغيرات متطلبات العمل
وبحسب قول الدكتورة نيفين مكرم رئيس قسم الحاسب الآلي ونظم المعلومات بأكاديمية السادات ونائب رئيس الجمعية المصرية لتكنولوجيا الحاسبات، لابد من أن نتفهم أن الذكاء الاصطناعي كشريكاَ وليس خصماً في ساحات العمل. فحقيقي أن الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي سوف يؤدي إلى تغيير كيفية أداء العاملين لوظائفهم وكيفية تنظيم دورة العمل وتعزيز الإنتاجية. وبالتأكيد سوف يخلق مجالات عمل ووظائف حديثة. ولكن لا يعني هذا بالضرورة الاستغناء عن العمالة البشرية، بل على العكس سيساهم في إعادة توظيف إمكاناتهم لتحسين جودة الخدمات والمنتجات المقدمة للمستهلكين وبخاصة في مجالات الرعاية الصحية، والطاقة، والبيئة، وغيرها.
ومع ذلك، يجب أن يُفهم أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يؤدي إلى تغييرات كبيرة في كيفية أداء الموظفين لوظائفهم. إذ سيزداد الطلب على المهارات المرتبطة بالتكنولوجيا مثل البرمجة، تعلم الآلة، وعلم البيانات. بالمقابل، سيتطلب من العمال تطوير مهارات إضافية مثل القدرة على التكيف والإبداع، حيث ستصبح المهارات الروتينية والمرركة اقل أهمية وستختفي تدريجياً.
وتضرب مثالاً بموظف الأرشيف وصورته الذهنية القديمة كونه رجلاً طاعن في السن مختبئ خلف أكوام من الأوراق والملفات التي يكسيها التراب. والتي سرعان ما تغيرت مع بدء عصر الأرشفة الإلكترونية والتي أصبحت واقعاَ في كافة جهات الأعمال العامة والخاصة. وكيف أصبح الحصول على المعلومة تجربة يسيرة وأصبحت المعلومات تحفظ بآمان ودقة. وهنا يجب أن نسأل أنفسنا هل استبدل الأرشيف الإلكتروني البشر، بل على العكس اعتمدت عمليات الأرشفة على أعداد أكبر من الموظفين لإتمام تسجيل البيانات ومراجعتهم وإدخالها.
لذا توضح الدكتورة نيفين، أن الخوف من الذكاء الاصطناعي تحت إدعاء أنه يطرد البشر من ساحات العمل هو أمر غير حقيقي يغذيه عدم الوعي الكافي. ولكنه في نفس الوقت يلقي الضوء على العمالة المقنعة أو هؤلاء العاملين المتواجدين بدون احتياج أو تأثير حقيقي على إتمام العمل. وتشير التقديرات إلى أن نحو 300 مليون وظيفة حول العالم قد تكون معرضة للأتمتة.
الاتجاهات العالمية والمحلية
وبنظرة على سوق العمل العالمي يعد سوق التكنولوجيا والتقنية من أكثر القطاعات نشاطاً وتوظيفاً، مع توقعات بنمو مستمر في الطلب على المهارات المتقدمة في مجالات مثل البرمجة، تحليل البيانات، الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني. شهرياً يتم توظيف 130 ألف عامل متخصص في مجال التكنولوجيا وفقا لإحصائيات مكتب العمل في الولايات المتحدة، منهم 18 ألف في شركات صناعة التكنولوجيا. وذلك بخلاف القطاعات الأخرى من بينها قطاعات الصناعة، العلوم، التمويل والتأمين والتصنيع. وهو ما يخفض معدل البطالة للمواهب التقنية إلى 2% في أمريكا في حين يبلغ معدل البطالة الإجمالي الوطني نحو4%. في حين يبلغ معدل البطالة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات 2.7% في دول الاتحاد الأوروبي.
وعلي الرغم من الطلب المتزايد على المهارات الرقمية والتقنية المتقدمة في سوق العمل، لا تزال هناك فجوة كبيرة بين الطلب والعرض المتاح. حيث تواجه العديد من المؤسسات تحديات في العثور على المزيج المناسب من المهارات التقنية والقدرات البشرية. تشير التقديرات إلى أن 69% من أصحاب العمل يعانون في العثور على الموظفين المناسبين، حيث يهدد نقص المهارات والموارد مشاريع التحول الرقمي حول العالم.
وفي مصر كما توضح الدكتورة نيفين، يعتبر قطاع التكنولوجيا من القطاعات الواعدة، حيث يساهم بنحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي. ومع وجود حوالي 600 ألف وظيفة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فإن معدل البطالة في هذا القطاع منخفض نسبياً مع وجود إمكانات نمو متوقعة. وهو ما يعزي إلى الاهتمام المتزايد بتطوير قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات المالية الرقمية والذكاء الاصطناعي.
خليط المهارات الإنسانية والرقمية
ولتحقيق أقصى استفادة من الفرص المتاحة في سوق العمل، تنصح الخريجين بتطوير مهاراتهم التقنية. كما أنه أصبح من الضروري ربط التعليم الأكاديمي بمتطلبات سوق العمل من خلال تطوير مناهج دراسية تلبي احتياجات الصناعة والتكنولوجيا. كما يجب تشجيع برامج التدريب والتطوير المهني للعاملين لتعزيز مهاراتهم.
خليط من المهارات الرقمية والإدارية والاجتماعية يجب أن يتقنه ويمتلكه الموظف في عصر الذكاء الاصطناعي. كما تظهر نتائج مشروع قياس الذكاء الاصطناعي التابع لإحدي الجميعات الأمريكية المعنية بالتكنولوجيا الرقمية إن مجموعة المهارات الواسعة للمهارات الإدارية والتجارية هي أكثر المهارات المطلوبة في المهن الأكثر تعرضاً للذكاء الاصطناعي. وتشمل إدارة المشروعات، الإدارة المالية والتمويل، دعم العملاء على سبيل المثال.
تأثيرات الذكاء الاصطناعي على سوق العمل سيكون متنوعًا، ولكن إذا تمت إدارة هذا التحول بشكل جيد، فإن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى مكاسب اقتصادية كبيرة وتحسين نوعية الحياة وفقا لرؤية الدكتورة نيفين مكرم. سيكون هناك ستكون هناك حاجة إلى عمال ذوي مهارات متعددة والقدرة على التكيف مع التغييرات السريعة في سوق العمل وتركيز أكبر على المهارات الإبداعية والتحليلية والاجتماعية.
المواهب التقنية
وتستطرد د. نيفين، لدينا في مصر في مصر قاعدة جيدة من الخريجين والمواهب في مجالات البرمجة والتكنولوجيا. حيث تتبني مصر رؤية واضحة لربط الجامعات والمعاهد والمدارس التقنية بالتنسيق مع الشركات والصناعات التكنولوجية لضمان ملاءمة خريجها لاحتياجت السوق. كما نجد العديد من المبادرات والمنصات الرقمية للتعلم عن بعد في المهارات التقنية المختلفة. فضلاً عن تخصيص حوافز وحاضنات أعمال لدعم رواد الأعمال والمشروعات الناشئة في مجال التكنولوجيا. كل هذا يجعل قطاع التكنولوجيا يشهد نمواً ملحوظاً، ولكن لا يزال يتطلب المزيد من الاستثمارات والجهود لتطوير البنية التحتية للبيانات والحوسبة السحابية لدعم مشاريع التحول الرقمي وتوفير المواهب التقنية.
عصر التحول الرقمي يسلط الضوء على الطلب المرتفع على المهارات الحوسبة السحابية، تحليل البيانات، البرمجة، التسويق الرقمي، والأمن السيبراني بين الموظفين الذين يسعون إلى تحسين مهاراتهم والبقاء تنافسيين في سوق العمل المتطور. فهل نحن حقًا مؤهلون للتعامل مع التكنولوجيا؟
يجيب على هذا التساؤل الدكتور محمد محسن رمضان، خبير الامن السيبراني ومكافحة الجرائم الالكترونية، أصبح على المؤسسات حول العالم مجاراة التطوير وأن تظل قادرة على التكيف مع التغيرات التكنولوجية السريعة وتحديث أنظمتها بشكل دوري لتبقى قادرة على المنافسة. وهو ما أوجب الاهتمام بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، بمعني استخدامه بشكل أخلاقي ومسؤول، مع مراعاة التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية. وكذلك توفير برامج تدريبية مستمرة للموظفين لتأهيلهم على استخدام التقنيات الجديدة والتعامل معها بشكل آمن.
التطور والأمن التكنولوجي