أحمد إبراهيم
عندما يتوسط مدينة كالمنصورة عاصمة الدقهلية تمثال كبير لسيدة الفن والغناء كوكب الشرق أم كلثوم، وبموقع آخر تمثال فخيم للكاتب والأديب أنيس منصور، وعلي جدران مدارسها تُرسم صوراً لعلي مبارك أبو التعليم، فإذا نحن أمام أرض فريدة هزمت الصليبين وأنجبت للنور أقطاب العلم والفن والثقافة والأدب.
وحقيقة يعد الكاتب الصحفي والأديب محمد حسن الألفي واحداً من أبناء عنقود الأدب والإبداع وابن بار من أبناء هذه الأرض الطيبة، فهو راهباً من رهبان الكلمة، أنتج الكثير والكثير من المقالات الهامة والساخنة بالعديد من الإصدارات الصحفية العريقة كروزا اليوسف والوفد وغيرها من إصدارت هامة شارك هو نفسه في تأسيسها وتدشينها، فهو مؤسسة صحفية كاملة تتحرك علي قدمين.
مبدول الألفي
ويبدو أن الألفي لم يكتفٍ بكونه صحفياً أنيقاً يملك حضوراً هاماً ومحورياً في بلاط صاحبة الجلالة، تزامن هذا الحضور مع أحداث تاريخية عظيمة مثلت خطباً جليلاً وأحداثا أنجبت تغيرات عميقة في حياة هذا الوطن العظيم.
ليلقي بفنه وإبداعه علي عالم الرواية، مشاركاً هذا العام بمعرض القاهرة الدولي للكتاب برواية تدور رحاها في عالم الغيب والميتافيزيقا – عالم الرعب والجن – اختيار غريب لكاتب سياسي بالمقام الأول، اختيار توقفت أمامه كثيراً عند مطالعة مقدمة إنتاجه الأدبي الجديد والذي يقع فيما يقرب من ثلاثمائة صفحة من المقطع المتوسط.
فحظي دائماً عثر في جُل ما عُرض علي من أدب الرعب، أحداث مفككة وشخصيات مشوهة بلا تاريخ أو هدف وسرد لا يعرف التتابع أو التسلسل المنضبط المقنع، هذا إضافة إلي لا مكان أو زمان، أو حتي منطق مقبول تدور حوله أحداث هذا العالم الغرائبي العجيب، هي أعمال تسعي لإرضاء شريحة الشباب وتلهث فقط لتحقيق علامة البست سيللر.
وحقيقة قبل مبدول الألفي كان الامتناع عن التعرض بالتحليل أو النقد أو حتي بالإشارة لأي إنتاج من أعمال أدب الرعب هو نوع من الفضيلة واحترام الذات.
إلا أن الألفي فجأنا بإنتاج أدبي مميز ورواية رشيقة من أصناف الرعب النفسي، فـ “سليم ياسين” النجم الصحفي الكبير، تعرض للإذلال والمهانة بعد مقال سياسي ناقد كتبه هو لتأتيه مكالمة تلفونية أو بالأدق اغتيال مهني معنوي من أربع كلمات “.. روح أقعد في بيتكم ..!!!”.
لتكون هذه الكلمات الأربعة بداية لتاريخ جديد في عالم غريب، عالم تتشابك فيه الأبالسة بالجن بالبشر، يتوه فيه “سليم” من نفسه ومن أهل بيته، زوجته الأصيلة الغيورة “رحمه” وأبناءه الثلاثة “جلال ولبني ووائل “.
عالم من الغواية
لتكون الفاتنة “رغده” أو “جمرة” باباً لعالم ملء بالغواية والمجون والرغبة في إضلال الآخرين، والغريب أن الكل مع “سليم” أو الجن “مطرش” يتعرض للغواية ويقبلها راضياً، بداية من “نوح” صديقه الكاتب الصحفي الكبير، وأيضاً “حسام” ضابط المعلومات بالجهاز الأمني العتيد، وحتي الشيخ والصوفي الجليل “حسونة” وبنته “حسنه” وأهل بلدته التقية الفاضلة.
الكل مغوٍ، الكل ضعيف هش الإيمان مشروخ اليقين، ولولا تكاتف وترابط أهل القرية لبقي الحال علي ما هو ولطالتنا كلنا الغواية وتحولنا جميعاً لمجتمع من الأبالسة والشياطين.
وفي عالم من الغواية لم ينسي الألفي أن يطال بقلمه بعض مثالب مما نمر به فلقد هاجم أداء الإعلام المصري وخصوصاً برامج التوك شو وما يحدث بها من تشرس وتنمر، ففي جملة بسيطة واضحة اختصر زيف وعشوائية الإعلام حينما قال البطل سليم للضابط حسام ” إنت بتاخد معلوماتك من الإعلام ..!!”،
كما طال أيضاً تسلط وجبروت الأجهزة، فمقال رأي واحد كفيل بأن تكون في دنيا غير الدنيا.
وأيضاً هاجم المجتمع الذي يبحث فقط عن ما هو استهلاكي وقتي، متمثلاً في نظرة الأبناء النفعية لأبيهم حتي في ظل ظروفه وأوقاته القاسية التي يمر بها.
لا شك في أن إقدام الألفي علي تقديم عمل أدبي من هذا النوع الذي يلقي رواجاً وإنتاجاً هائلا بين الأدباء الشبان لم يكن من قبيل الصدفة، فهو أكيد عمد لتقديم عمل مكتمل الأركان ينتمي لجنس أدب الرعب النفسي، مرسخاً لمكوناته الصحيحة وبنائه المحكم المنضبط المعايير، في جهد كبير لا شك خصص له عشرات الشهور من التعب والعرق والعطاء.
تأسيس وترسيخ
فرواية “المبدول” تتوافر بها مبررات ودوافع الكتابة الهادفة، وأيضاً دوافع ومبررات البطل ليزج بنفسه في هذا العالم الغامض، كما أن معالم الزمان والمكان واضحة، وبيئة البطل ثرية بالشخصيات والأحداث، وأيضا العمل ككل يتماس ويتلاحم مع قضايا مصرية معاصرة، تمثل لنا أشواكاً وأحزاناً بين الحين والآخر.
كما أنه من الواضح وضوح الشمس أن الألفي لم يعمد كتابة هذا الصنف الأدبي بحثاً عن رواج تجاري وبيعي، فالرواية من المقطع الكبير، كما كتبت بلغة عربية راقية سلسة، وبطلها رجلاً كبيراً وكاتباً مثقفاً وليس شاباً صغيراً يغازل ويتماهي مع فئة الشباب ممن يقبلون علي هذا اللون والصنف الأدبي، كما أن الرواية نفسها خلت من البهارات التجارية المعهودة فلن تجد بها خلطة الجنس بالدم بالأشباح غريبة الشكل والأطوار.
فـ” المبدول” عمل أدبي يُأسس ويرسخ لشكل قيم راقٍ من أجناس أدب الرعب، الذي فُجأنا به ينفجر في وجوهنا مرة واحدة.
طبطبا من السما
إن كانت رواية “المبدول” لصاحبها “محمد حسن الألفي” عملاً أدبياً قيماً أثق بأن كثيراً من الأقلام الناقدة المحللة ستتعرض لها بالإشادة والإطناب، إلا أنني لازالت أطمع من رجالاٍ هو بالأساس كاتباً سياسياً، أن يقدم لنا عملاً توثيقياً أرشيفاً عن أيام شارك فيها عن مقربة من حكم مبارك، رأي فيها هذا النظام في ذروة مجده وفي أحلك وأقسي لحظاته.
عملاً سياسياً نتدراس حوله ومن خلاله عن أخطاء حدثت أو عن مؤامرة قد تكون تمت بليل لهذا الوطن، عملاً يكون بمثابة طبطبا من السما، تحقق دروسه المستفادة نقلة أو خطوة لتقدم هذا الوطن للأمام، فنحن مجتمعٍ أدمن الجري بالمكان أو علي الأكثر الرقص علي السلم..!!