Site icon مصر 30/6

المواجهة بين إسرائيل وحزب الله

حسن نصر الله

بعد مُضى أكثر من أربعين يومًا على انطلاق الحرب في قطاع غزة، مازالت الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية أحد مصادر اللا يقين في هذه الحرب. فربما الاستنتاج السائد حاليًا أن حزب الله اللبنانى غير معنى بتصعيد المواجهة العسكرية مع إسرائيل، وأن العمليات الدائرة حاليًا تتم في نطاق تخفيف الضغط على غزة، وفى إطار معادلة الردع القائمة بين الحزب وتل أبيب، بحيث لا تتجاوز الخطوط الحمراء إلى حرب واسعة النطاق على غرار ما حدث في يوليو 2006.

وعلى الرغم من تأكيد الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في خطابيه العلنيين، يومى 3 و11 نوفمبر 2023، ذات المعنى، بعدم نية الحزب في توسيع عملياته، فإن استمرار العمليات العسكرية في شمال إسرائيل، وتراوح شدتها بين الحين والآخر، يجعل احتمالات التصعيد قائمة.

تكتيك التشتيت:

يبدو أن حسن نصر الله ألقى خطابه الثانى، في 11 نوفمبر الجارى، وبعد ثمانية أيام فقط من خطابه الأول (فى 3 نوفمبر)، لاستدراك الانتقادات التي وُجهت إليه، بسبب النطاق المحدود لعمليات حزب الله اللبنانى ضد إسرائيل، ولضعف التزامه بمبدأ «وحدة الجبهات». إذ بدا نصر الله وكأنه يُقدم كشف حساب لانخراط حزبه عسكريًا في الحرب منذ بدايتها.

ولكن اللافت في هذا الخطاب هو صياغة نصر الله لمصطلح «الجبهات المُساندة»، في إشارة إلى التحركات على جبهات لبنان وسوريا والعراق واليمن ضد أهداف إسرائيلية وأمريكية، ليعكس أن مستوى العمليات العسكرية لحزب الله لن يتطور أكثر من الحد الحالى. وما أكد ذلك هو حديث نصر الله عن أن «المعركة مع إسرائيل هي معركة تراكم الإنجازات وجمع النقاط»، في إشارة إلى أن الانتصار على إسرائيل سيتحقق بشكل تراكمى، وليس بهجوم واحد واسع النطاق.

وفى هذا الإطار، يستنتج الكتاب الصادر عن «المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية» في لندن، عام 2019، تحت عنوان «شبكات التأثير الإيرانية في الشرق الأوسط»، أن حزب الله غالبًا ما يتصرف وفق مصالحه الخاصة، بالرغم من علاقاته الوثيقة مع طهران، مفترضًا أن الإيرانيين يثقون في التقديرات العسكرية لقادة حزب الله، ويتركون لهم مساحة من حرية الحركة في قراراتهم الاستراتيجية، خاصة أن طهران لا تريد أن تخسر حزب الله «جوهرة التاج في شبكة نفوذها الإقليمية»، على حد وصف الكتاب.

وتتلخص حسابات حزب الله اللبنانى حاليًا في الاعتبارات العسكرية المرتبطة بحرب غزة، إذ يخشى الحزب أنه في حال نجحت إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية في غزة سريعًا، يمكن أن تُحوِّل انتباهها إلى لبنان. وبالتالى فإن استراتيجية حزب الله تتركز على تشتيت انتباه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وسحب قوة ترسانتها الكاملة بعيدًا عن غزة، وإطالة هذا التكتيك حتى يتوقف القتال في غزة، ولكن في إطار معادلة الردع الراهنة، ودون التصعيد إلى مستوى الحرب الشاملة.

تصعيد متبادل:

في أعقاب اندلاع الحرب الجارية في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضى، كانت هناك تبادلات مكثفة لإطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله اللبنانى، أدت إلى إجلاء الإسرائيليين الذين يعيشون بالقرب من الحدود اللبنانية. وفى المقابل، تشير المنظمة الدولية للهجرة إلى نزوح أكثر من 25 ألف لبنانى من الجنوب نتيجة هذه الضربات العسكرية.

وبدا خلال المواجهات العسكرية أن كلا الجانبين متمسك بقواعد الاشتباك غير المعلنة التي بموجبها لا يشعل أىٌّ منهما حربًا جديدة. فقد ضرب حزب الله مواقع عسكرية وأهدافًا يعتبرها أراضى لبنانية خاضعة للاحتلال الإسرائيلى، في حين قصفت إسرائيل أهدافًا مرتبطة بحزب الله على بُعد ثلاثة كيلومترات من الحدود.

ولكن بعد مرور حوالى شهر على بدء تلك الحرب، وتحديدًا في 11 نوفمبر الجارى، طرأت تطورات جديدة، فللمرة الأولى تضرب إسرائيل مسافة 40 كيلومترًا داخل الأراضى اللبنانية، بهدف إصابة قاذفة صواريخ أرض جو إيرانية من طراز (SA-67)، والتى يحاول حزب الله استخدامها لإسقاط المُسيّرات الإسرائيلية. كذلك بدا أن الجيش الإسرائيلى يحاول التخلص من المواقع التابعة لقوة كوماندوز «الرضوان» التابعة لحزب الله.

وفى 12 نوفمبر، أدى هجوم صاروخى لحزب الله إلى سقوط وإصابة عدد من العاملين في شركة الكهرباء الإسرائيلية. كذلك أشارت تقارير إلى أن الجيش الإسرائيلى وزّع منشورات في جنوب لبنان تدعو السكان إلى التحرك شمالًا، في إشارة إلى أن هناك تصعيدًا آخر في الأفق.

وأعقب هذه التطورات تصاعد في لهجة التهديد الرسمى الإسرائيلى، إذ قال وزير الدفاع، يوآف جالانت، يوم 11 نوفمبر: «إذا سمعتم أننا هاجمنا بيروت، فاعلموا أن نصر الله تجاوز الخط الأحمر». وفى 14 نوفمبر، حذّر رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، حزب الله من «اختبار إسرائيل»، مُعتبرًا أنه بذلك سيرتكب «خطأ حياته»، وأكد أن تعليماته للجيش الإسرائيلى هي «الاستعداد لأى سيناريو».

وما أوحى بتصاعد الأحداث في جنوب لبنان كان تصريح قائد بعثة قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان «اليونيفيل»، الجنرال أرولدو لاثارو، في 14 نوفمبر، حول «قلقه العميق» إزاء الوضع في جنوب البلاد واحتمال وقوع «أعمال عدائية أوسع نطاقًا وأكثر حدّة».

مخاوف إسرائيلية:

مازالت التقديرات الغربية والإسرائيلية متمسكة باستنتاجها الرئيسى بأن حزب الله غير معنى بتصعيد المواجهة العسكرية مع إسرائيل، بل يرغب في وضعها في حدود واضحة، بما يجبره وإسرائيل على شن سلسلة من الردود العسكرية المتبادلة المحسوبة والدقيقة.

ولكن في الوقت نفسه، ترى الباحثة الإسرائيلية، أورنا مزراحى، في تعليقها المنشور على موقع «معهد دراسات الأمن القومى الإسرائيلى»، أن حزب الله دائمًا ما يسعى لفرض الغموض على استراتيجيته العسكرية وتصوراته حول المستقبل. فالحزب لديه القوة النارية اللازمة لتوسيع عملياته إلى حد كبير. فوفقًا للتقديرات الإسرائيلية، يملك حزب الله حوالى 150 ألف صاروخ وقذيفة، لديها القدرة على الوصول إلى عمق إسرائيل.

فيما يرى محلل الشؤون العسكرية بصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، عاموس هارئيل، أن استمرار العمليات العسكرية في الشمال يجعل احتمالات التصعيد قائمة دائمًا، بسبب احتمالات تبدل الحسابات العسكرية في أي وقت، وتزايد خطر «سوء التقدير» في الساحة الشمالية. وهو ما يظهر جليًا في تفاوت مستوى التوتر والمواجهات العسكرية. فبعد التطورات غير المسبوقة التي شهدها يوما 11 و12 نوفمبر، كما سبق ذكرها، تراجع مستوى المواجهات إلى ما كان عليه الوضع قبل 11 نوفمبر، ولكن في مساء يوم 17 وفجر يوم 18 نوفمبر أعلن الجيش الإسرائيلى اعتراض دفاعاته الجوية صاروخ أرض جو من لبنان استهدف مُسيّرة تابعة له، بينما أكد حزب الله إسقاط هذه المُسيّرة، التي كانت من طراز «هيرميز 450» ‏متعددة المهام. بجانب استهداف الحزب لتجمعين من الجنود الإسرائيليين في محيط موقع الراهب ومحيط موقع المطلة في جنوب لبنان بطائرتين مُسيّرتين وإيقاع 4 إصابات بين صفوفهم.

صحيح أن تلك التطورات العسكرية مازالت دون مستوى التصعيد المطلوب لإشعال حرب جديدة، ولكنها بدأت تأخذ مسارًا تصاعديًا متفاوت الشدة، يستنزف القوة الإسرائيلية، ويُسبِّب لها الكثير من الارتباك. فهناك تخوف في إسرائيل من أن الجيش على الجبهة اللبنانية لا يسيطر فعليًا على وتيرة التصعيد. ويشير عاموس هارئيل إلى أن عدم سيطرة إسرائيل على الجبهة الشمالية منح حزب الله الحرية لإطلاق ليس فقط قذائف الهاون، بل أيضًا مجموعة واسعة من الأسلحة مثل المُسيّرات الهجومية، وصواريخ الكاتيوشا، والصواريخ المُضادة للدبابات، وهو ما يؤثر سلبًا في الجيش الإسرائيلى، وفق رؤيته.

إن حالة الارتباك وعدم اليقين قد تدفع إسرائيل إلى شن «هجوم وقائى»، بدلًا من انتظار حدوث هجوم لبنانى مماثل لما حدث في السابع من أكتوبر الماضى، وسيكون حينها، من وجهة النظر الإسرائيلية، أكثر كارثية في نتائجه. ويشير محللون عسكريون، ومنهم أنشيل فيفر، إلى أن الحديث عن «هجوم وقائى» هو حديث جدى داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حاليًا، وتحدث في مقاله المنشور في صحيفة «هآرتس» عن أن تركيز الجهود العسكرية الإسرائيلية على الجبهة اللبنانية هو أحد الخيارات القائمة حاليًا داخل تل أبيب، سواء في أعقاب إنهاء حرب غزة أم بالتوازى معها.

إجمالًا، يمكن القول إن التطورات العسكرية في جنوب لبنان ربما نقلت المشهد هناك إلى «حافة الهاوية»، وجعلت من «الحرب أو التصعيد الشامل» خيارًا محتملًا، بالرغم من تعارضه مع الحسابات السياسية لكلا الطرفين. ولكن استمرار المواجهات، وتزايد الضغوط على حزب الله، وارتباك أفكار نتنياهو للخروج من مأزقه الحالى بأقل قدر من الخسائر على صعيد مستقبله السياسى، قد يُبدِّل الحسابات السياسية لكلا الجانبين.

محمد محمود السيد

*باحث متخصص في الشؤون الإقليمية

Exit mobile version