قد تفتح نافذة بيتك المطلة على الشارع فيدخل منها نور الشمس الذي يضئ جنبات مسكنك ويبعث في روحك سعادة خفية لا تعلم مصدرها.. وقد تفتح نافذة المنور الضيق فتصلك أصوات خناقات الجيران ورائحة زيت الطعام المحترق من قلي السمك القادم بصحبة دخان كثيف من غرفة البواب.
وهناك نافذة في بيتك حين تفتحها لا تعلم ماذا سيأتيك منها تُسمى شاشة التلفاز.. فكثيرا ما يدخل منها إزعاج وضجيج تحت مسمى “الدراما الواقعية” وأحيانا يتسلل منها نور ودفء وإبداع مثل حكاية “حتة من القمر” من مسلسل “زي القمر”.
“حتة من القمر” حكاية أقرب للقصيدة منها للدراما، نظمتها الكاتبة الموهوبة ميرنا الفقي.. فإذا صادفتموها فاسألوها من علمها نظم الشعر؟ ومن أعطاها سحر النثر؟
يستحق منا الإشادة والتقدير كل مبدع يخلص لفنه ويلتزم بقواعد صنعته، فلا يلجأ إلى قوالب الدراما الرائجة ، ولا يردد أسطوانة “الجمهور عايز كدا” لأن المبدع كالمُعلم دوره أن يقدم فكرا ووعيا وثقافة، لا لهوا وإلهاءً وإسفافا بحجة إن الطالب عايز كدا، فالمبدع يقدم ما يحتاجه المجتمع وليس ما يريده الجمهور.
وأنا أشاهد حكاية “حتة من القمر” كنت اسمع بداخلي صوتا يهتف: “إيه العظمة دي؟ “.. فالمؤلفة بذلت مجهودا في الكتابة يليق بمبدعة تحترم صنعتها وتحترم متلقيها.. أخلصت لحرفة الكتابة ولم تستسهل كما يفعل الآخرون.. لم تبخل على مُشاهد التليفزيون بمجهودها الذي يليق بأعمال السينما الأكثر تأثيرا وتقديرا وانتشاراً وبقاءً.
السيناريو يناقش فكرة قاسية على النفس ومأساة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ولكنه لم يستخدم قالب الميلودراما السهل الكئيب، وصاغ المعالجة في إطار اللايت الكوميدي القائم على طبيعة الشخصية المصرية التي لا تتوقف عن التنكيت والألش العابر للقارات والقاصف للجبهات.
السيناريو تخلي عن الطريقة التقليدية لكتابة الدراما التلفزيونية وانحاز للكتابة السينمائية التي ظهرت ملامحها في كثير من مفردات الكتابة مثل: اللقطات السريعة لشخصية قمر الطفلة، وقطع التسلسل الطبيعي للأحداث بمشاهد الحكي في جلسة الدعم النفسي البديلة لصوت الراوي، والاعتماد على الصورة في فهم معاناة الشخصية الرئيسية. ولولا لجوء المؤلفة في الحلقة الأخيرة للحوار التوضيحي الطويل الذي يناسب طبيعة الأعمال التلفزيونية لكانت الحكاية عملا سينمائيا خالصا.
اتسمت الكاتبة بالجرأة حين وظفت مشاهد جلسة الدعم النفسي بما يخدم فكرتها، لأن المشاهد المصري لم يعتد على رؤية مثل هذه الجلسات إلا في الأفلام الأمريكية، واستلهام بعض الأفكار من السينما العالمية بما يفيد الهدف الدرامي يُحسب للكاتبة لا عليها، فهو يشبه اقتباس موسيقار الأجيال لنغمة غربية رشيقة ودمجها في لحن شرقي أصيل لإمتاع المستمع العربي، كما يكشف عن كاتبة مطلعة ترغب في التطوير ولا تكتفي بالتقليد.
رسمت ميرنا سيناريو الحكاية كلوحة مستوحاة من وجه بطلتها؛ فجعلته صورة من ثنائية “اليين واليانغ” أو “الأبيض والأسود” ، حيث بناء السيناريو قائم على هذا التضاد، ولكي يظل هذا التضاد ماثلا أما أعين المشاهدين طوال الوقت اختارت عن قصد أن يكون البطل مصورا فوتوغرافيا يُبرز طوال الوقت هذين المتضادين حتى تألفهما العين ويستقر في وجدان المشاهد أنهما ليسا نقيضين بل قطبين بهما تكتمل الحياة وتستمر؛ كالليل والنهار، والذكر والأنثى، والأرض والسماء، والخير والشر، والسالب والموجب.
حافظت ميرنا على هذه الثنائية في كل تفاصيل الحكاية، فقدمت لونا أبيض أمام كل لون أسود؛ فأمام الصديقة السيئة وضعت صديقة طيبة، وأمام زميلة العمل السيئة وضعت زميل العمل الطيب، وأمام الأم السيئة وضعت الأب الطيب، وأمام قمر الكبيرة السيئة وضعت قمر الصغيرة الطيبة وهكذا في كل الشخصيات.
وحافظت على هذه الثنائية في الأحداث فأمام الأم الحية وضعت الأب الميت، وأمام الخالة الحاضرة وضعت العم الغائب وأمام الابن الذكر وضعت الابنة الأنثى.
ثم حافظت علي هذه الثنائية في المشاعر فأمام كل شعور سلبي سئ وضعت رومانسية جميلة، وأمام كل دمعة حزن وضعت ابتسامة لطيفة، فقاومت موجات التراجيديا العاتية بمصدات الكوميديا المبهجة .
كل هذا لم يأت مصادفة وإنما عن وعى وفهم وإخلاص لفكرة لم تغب عن ذهن الكاتبة لحظة ولذلك فقد خدمت كل خيوط الدراما هذه الفكرة ولم تتفرع أو تبعد عن هدفها.
تحية لكل صناع هذا العمل الرائع الذي يحتاج لعشرات المقالات لسرد تفاصيله الرائعة كتفصيلة المطرب الشعبي الجميل حسن الأسمر، ولوحات غرفة نوم قمر، والمرآة المكسورة في غرفتها، وتعمد إخفاء الجانب المعتم من وجه قمر في المشاهد الأولى، والتمهل لحين الإعلان عنه وتقديمه من خلال عين المصور، ودائرة الضوء حول قمر في جلسة الدعم النفسي، وغيرها من التفاصيل التي لا تغيب عن ذهن المتلقي الواعي.
باختصار.. حكاية “حتة من القمر” من مسلسل “زي القمر” ستبقى في “حتة تانية خالص” في مكتبة الدراما التليفزيونية.