رسائل الضربات الأمريكية ضد أهداف إيرانية فى سوريا والعراق
د سامح توفيق
أدانت وزارة الخارجية الإيرانية الهجمات التى شنتها القوات الأمريكية، ليل الجمعة/ السبت، 2 و3 فبراير 2024، على 85 هدفًا تابعًا للفصائل المسلحة المرتبطة بإيران، فى 3 مواقع بالعراق، و4 مواقع فى سوريا، ما أسفر عن سقوط عدد من العناصر التابعة لتلك المجموعات ومدنيين. ويأتى ذلك فى إطار الرد الأمريكى على الهجوم الذى استهدف قاعدة «البرج 22» على الحدود الأردنية- السورية، وأودى بحياة ثلاثة أمريكيين، وإصابة آخرين.
■ العامل الإيرانى:
يمكن الوقوف على بعض الملاحظات التى تتعلق بالهجوم على قاعدة «البرج 22» الأمريكية، وردة الفعل الأمريكى والإيرانى، على النحو التالى:
1- اتهام أمريكى بضلوع إيران فى هجوم «البرج 22»: فى أعقاب الهجوم الذى أسفر عن مقتل ثلاثة أمريكيين وإصابة نحو 30 شخصًا، اتهم الرئيس جو بايدن الميليشيات المدعومة من إيران بالوقوف وراء هذا الهجوم، كما أكد وزير الدفاع الأمريكى، لويد أوستن، أن الطائرة المُسيّرة التى نفذت الغارة إيرانية الصُنع. وعلى الرغم من تكرار الهجمات التى استهدفت قواعد وقوات عسكرية أمريكية، منذ اندلاع الصراع فى قطاع غزة فى 7 أكتوبر 2023، والتى وصل عددها إلى نحو 160 هجمة، فإن أغلبها لم تكن مُؤثرة ولم تُخلف قتلى. وعليه، فقد مثّل هجوم «البرج 22» تعديًا لما يمكن اعتباره «الخطوط الحمراء» لواشنطن فى المنطقة، والتى تتمثل فى مقتل أمريكيين. لذا فقد تزايدت التكهنات بشأن إمكانية توجيه واشنطن ضربات ضد أهداف داخل إيران، انتقامًا لمقتل جنودها.
2- استعداد إيران لتفادى الهجوم ضدها: نفت طهران، رسميًا، أى صلة لها بهجوم «البرج 22»، كما وجّه المرشد الأعلى على خامنئى، فى اجتماع مجلس الأمن القومى الإيرانى، الذى عُقد لبحث رد الفعل الأمريكى، بتجنب إشعال حرب مباشرة مع الولايات المتحدة، وإبعاد إيران عن تصرفات الوكلاء الذى نفذوا الهجوم على القاعدة الأمريكية. بل أشارت بعض المصادر إلى استعانة دائرة خامئنى بوزير الخارجية السابق، محمد جواد ظريف، المعروف بعلاقاته مع الدوائر الأمريكية، بهدف التواصل معهم للتهدئة.
من جهة أخرى، أعلنت القوات المسلحة الإيرانية حالة تأهب قصوى، ونشرت منظوماتها الدفاعية على طول الحدود مع العراق، تحسبًا لأى هجمات مُحتملة من جانب الولايات المتحدة. كما طالبت المجموعات المسلحة المرتبطة بها بالاختفاء وإخلاء مواقعها، والامتناع عن عقد الاجتماعات والتواصل، ووجهت بمغادرة القادة العسكريين والمستشارين الإيرانيين مواقعهم فى العراق وسوريا، تجنبًا لاستهدافهم من جانب الغارات الأمريكية أو الإسرائيلية.
3- تحمّل «كتائب حزب الله» العراقية المسئولية عن الهجوم: أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أنها ستعلق عملياتها العسكرية والأمنية «مُؤقتًا» ضد القوات الأمريكية، بهدف منع إحراج الحكومة العراقية، بعد الهجوم الذى أسفر عن مقتل أمريكيين على الحدود الأردنية. كما سعت الكتائب إلى تبرئة إيران من الهجوم، مؤكدة أن طهران لا تعرف «كيفية عملها» و«كثيرًا ما تعترض تصعيدها ضد القوات الأمريكية»، وذلك فى محاولة من جانبها لإبعاد الاتهام عن إيران بشأن هجوم «البرج 22»، وما قد يرتبه ذلك من توجيه ضربات مباشرة لطهران. وتزامن ذلك الإعلان مع الزيارة التى أجراها قائد فيلق القدس، إسماعيل قآنى، بشكل سرى، إلى بغداد، والتى دفع فيها «كتائب حزب الله» إلى إعلان المسئولية عن الهجوم على القاعدة الأمريكية، وتبرئة إيران من المسئولية عنه.
■ حسابات التصعيد:
ثمّة دلالات تتعلق برد الفعل الأمريكى إزاء الهجوم على قاعدة «البرج 22»، وهو ما يمكن إجماله على النحو التالى:
1- انتفاء عنصر المُباغتة: أعلنت واشنطن عن عزمها توجيه ضربات للأطراف المسؤولة عن الهجوم الذى أسفر عن مقتل ثلاثة أمريكيين، إلا أن هذا الأمر استغرق نحو أسبوع، حتى تم تنفيذ تلك الضربات، فى محاولة لإبطاء الرد الأمريكى، بما قد يمنح «مُهلة» لتلك الأطراف لأن تقوم بإجراءاتها فى الاختباء وإخلاء مواقعها. وربما يؤشر ذلك على رغبة أمريكية فى ألا تؤدى تلك الضربات إلى تأجيج الصراع فى المنطقة، إذا ما أسفرت عن مقتل قادة عسكريين إيرانيين أو قادة الميليشيات التابعة لإيران.
وربما هذا ما دفع رئيس مجلس النواب الأمريكى، مايك جونسون، إلى التصريح بأن «الوفاة المأساوية لثلاثة جنود أمريكيين فى الأردن على يد الميليشيات المدعومة من إيران، تطلبت ردًا واضحًا وقويًا. ولكن لسوء الحظ، انتظرت الإدارة لمدة أسبوع، ثم أرسلت برقية إلى العالم، بما فى ذلك إيران، تنبههم لطبيعة الرد الأمريكى». فيما يمنح بعض الوجاهة لوجهة نظر البعض التى تؤيد مسألة أن الضربات الأمريكية كانت لأهداف إعلامية أكثر منها حقيقية، على عكس ما قامت به إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، عند اغتيال قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليمانى، فى يناير 2020، إذ هاجمت موكبه فى بغداد بشكل مفاجئ.
2- استثناء إيران من الضربات الأمريكية: سعت واشنطن إلى تجنب توسيع نطاق الحرب الحالية، وعدم الدخول فى مواجهة مُباشرة مع إيران. فعلى الرغم من التهم الأمريكية بضلوع طهران فى الهجوم على قاعدة «البرج 22» التى تضم قوات أمريكية، فإن البيت الأبيض أكد على لسان المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى، جون كيربى، أن واشنطن لا تريد حربًا مع إيران، بل إن مصادر أمريكية قد أعلنت، بشكل صريح، عدم نية واشنطن ضرب أهداف داخل إيران ردًا على الهجوم على «البرج 22».
ليس ذلك فحسب، بل أعلنت الولايات المتحدة اعتقادها بأن «المقاومة الإسلامية فى العراق» هى من تقف وراء ذلك الهجوم، مُشيرة إلى أن إيران تمتلك نفوذًا على الميليشيات المسلحة فى المنطقة، لكنها لا تسيطر عليها بشكل كامل.
وعليه، فقد جاءت الضربات فى مناطق تسيطر عليها المجموعات الموالية لإيران، على الحدود بين سوريا والعراق، فى الميادين ودير الزور والقائم وغيرها. وهى مناطق اعتادت الولايات المتحدة، وإسرائيل فى بعض الأحيان، توجيه ضربات فيها، وتحاشى توجيه ضربات لأهداف «داخل إيران»؛ إدراكًا من واشنطن أن ذلك سوف يستنفر غضب طهران ويجبرها علىالرد بشكل مباشر على أصول أمريكية فى المنطقة. بل إن مصادر إيرانية قد نفت وجود قواعد للحرس الثورى فى المناطق التى تعرضت لقصف أمريكى فى سوريا، كما نفت وجود إيرانيين من بين القتلى جراء الهجمات.
3- اكتفاء طهران بالتنديد اللفظى: أدانت وزارة الخارجية الإيرانية الهجمات الأمريكية فى العراق وسوريا، وقالت إنها «تمثل انتهاكًا لسيادة ووحدة أراضى البلدين»، فى حين أكد وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان أهمية «المسار السياسى» لحل الأزمات المشتعلة فى المنطقة. وخلا بيان الخارجية الإيرانية من أى إشارة إلى ردة فعل من جانب طهران، بل إن الإشارة إلى أن الضربات تمثل «انتهاكًا لسيادة العراق وسوريا»، يُقصد بها نفى أن تكون تلك الهجمات تمثل رسالة ضد إيران. كما تجدر الإشارة إلى أن الحرس الثورى الإيرانى تجنب الإدلاء بأى تصريحات تعقيبًا على تلك الضربات الأمريكية، بخلاف ما قام به قبلها، من تحذير الولايات المتحدة من شن هجمات ضد إيران.
4- دفع إيران ثمن استراتيجية «رصاصة الغيب»: تستخدم إيران استراتيجية «رصاصة الغيب» لممارسة أقصى الضغوط الممكنة على الولايات المتحدة وإسرائيل، عبر الجماعات المسلحة التابعة لها، مع النأى بنفسها عن المسئولية عن الأنشطة التى تقوم بها تلك المجموعات، بهدف تجنب الدخول فى مواجهة مباشرة مع واشنطن وتل أبيب. بيد أن عملية ضبط تلك الميليشيات، وتصعيدها ضد المصالح الأمريكية، قد أصابها خلل فى الفترة الأخيرة، وربما يعود ذلك، فى جزء منه، إلى غياب شخصية كاريزمية بحجم قاسم سليمانى فى الحرس الثورى، والذى كانت له صلات عديدة وحضور بين الميليشيات التابعة للحرس الثورى.
وبالتالى، فقد ترى طهران أن تلك المجموعات تخطت «الخطوط الحمراء» فى تصعيدها ضد واشنطن، خلال السنوات الأخيرة، والذى يتمثل فى الانتقال من «استفزاز الأمريكيين» إلى «قتلهم»، وهو ما أوقع إيران فى حرج كبير، إذ إن طهران دائمًا ما تتحاشى قتل جنود أمريكيين وتحث المجموعات التابعة لها على تجنب ذلك.
5- تنويع واشنطن أدوات الضغط على إيران: سعت الولايات المتحدة، فى إطار الرد على هجوم «البرج 22»، إلى تنويع مساحات الضغط على إيران. فإلى جانب الهجمات فى سوريا والعراق، فقد قامت، مع القوات البريطانية، ليل 3 و4 فبراير الجارى، بشن نحو 50 هجمة ضد أهداف حوثية فى اليمن، شملت صنعاء والحُديدة وتعز وغيرها، وضمّت تلك الهجمات أهدافًا إيرانية، بحسب تصريحات مسئولين أمريكيين.
من جهة أخرى، فرضت الولايات المتحدة، فى 2 فبراير الجارى، عقوبات على قادة فى الحرس الثورى، وشركات داعمة للبرنامج الصاروخى الإيرانى. وتؤشر تلك الخطوات على رغبة واشنطن فى تكثيف الضغوط المتنوعة على إيران وأذرعها، فيما يمثل «بديلًا مُقنعًا» عن توجيه ضربات مباشرة ضدها، فى محاولة من جانب إدارة بايدن لتقليل الانتقادات إليها من الأوساط الجمهورية الساخطة من ردة الفعل الأمريكية، والتى يرونها «غير كافية»، وذلك فى الوقت الذى تقترب فيه الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
■ سيناريوهات مُحتملة:
قد تُسفر الهجمات الأمريكية الأخيرة على مواقع الميليشيات المسلحة فى العراق وسوريا، عن أحد تلك المسارات، والتى يمكن استعراض أبرزها على النحو التالى:
1- استمرار هجمات الميليشيات: فى ضوء محدودية الضربات الأمريكية التى تم تنفيذها ضد مواقع ميليشيات مسلحة فى سوريا والعراق، فمن المُرجح أن تستمر هجمات المجموعات المسلحة ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية. إذ تزامن مع الضربات الأمريكية قصف فصائل ما يُسمى «المقاومة الإسلامية فى العراق»، لقاعدة عين الأسد الجوية فى محافظة الأنبار، وقاعدة الحرير الجوية فى إقليم كردستان العراق. كما استهدف قصف صاروخى القاعدة الأمريكية فى حقل كونيكو للغاز شرقى محافظة دير الزور شمال شرقى سوريا.
وتُدلل تلك الحوادث على أن الميليشيات فى سوريا والعراق ليست فى وارد التخلى عن مهاجمة المصالح الأمريكية، إذ توعّد الحشد الشعبى فى العراق القوات الأمريكية بعد الهجمات الأخيرة التى استهدفت مواقعه، ومواقع مدنية فى العراق. أيضًا أعلنت حركة «النجباء»، أحد أكثر الفصائل العراقية نشاطًا ضد الأهداف الأمريكية، أنها «لن تعلق الهجمات ضد الأمريكيين، وسترد على أى هجوم منهم».
2- توقف مؤقت للهجمات: قد تفضى الهجمات التى نفذتها واشنطن ضد مواقع الميليشيات فى العراق وسوريا، إلى حالة من «التوقف المؤقت» للهجمات التى تقوم بها الأخيرة ضد الأهداف الأمريكية، وذلك فى ضوء الرسالة التى سعت الولايات المتحدة إلى إيصالها، بأن مقتل جنودها يمثل «خطًا أحمر» لواشنطن، يستلزم الرد عسكريًا.
من جهة أخرى، فإن الرسائل الحازمة التى سعت واشنطن إلى إيصالها لطهران بشأن مقتل جنودها تؤكد أن الأخيرة ربما استجابت لتلك الرسائل، والدليل على ذلك إرسالها قائد فيلق القدس إلى بغداد، لحث الميليشيات على التوقف عن مهاجمة الأهداف الأمريكية، وهو ما تجاوبت معه كتائب «حزب الله» بالفعل. كما أن الخبرة التاريخية تقول إنه فى أعقاب اغتيال قاسم سليمانى فإن الهجمات التى كانت تشنها المجموعات المرتبطة بإيران قد تراجعت نسبيًا عمّا كان عليه الوضع من قبل. ومن ثم فقد تؤدى الضربات الأمريكية الأخيرة إلى تراجع أنشطة تلك الميليشيات خلال الفترة المقبلة.
3- مراجعة إيران استراتيجيتها مع وكلائها: قد تلجأ طهران، خلال الفترة المقبلة، إلى مراجعة استراتيجيتها مع وكلائها. وفى هذا السياق، أشار مسؤولون استخباريون أمريكيون، فى تصريحات لشبكة «سى. إن. إن» الإخبارية، بعد وقوع هجوم «البرج 22»، إلى أن الهجوم فاجأ إيران وأقلق قادتها السياسيين والعسكريين، فضلًا عن أن طهران تشعر أيضًا بالقلق من الهجمات التى يشنها الحوثيون ضد السفن والناقلات فى البحر الأحمر، والتى ربما تؤدى إلى زعزعة المصالح التجارية لإيران مع بعض القوى الكبرى التى تعتمد عليها فى الانفكاك من ضغط العقوبات، وهى الصين والهند. ويأتى ذلك بعد تهديد الصين لإيران بأن عدم كف الحوثيين عن مهاجمة الناقلات البحرية ربما يدفع إلى تضرر المصالح التجارية بين طهران وبكين. ومن ثم فقد تُعيد إيران النظر فى استراتيجية تعاملها مع الوكلاء، بما يجعلهم يأتمرون بأمرها، دون الخروج إلى ما لا ترغب فيه طهران أو تستطيع مواجهة عواقبه.
فى الختام، يمكن القول إن الرد الأمريكى على الهجوم الذى استهدف قاعدة «البرج 22»، جاء «أقل قوة» و«أكثر انضباطًا»، وهو ما يندرج ضمن معادلة «التصعيد المحسوب»، التى تضبط الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، بما يضمن عدم انخراطهما فى مواجهة مباشرة ليست فى صالح أى منهما فى هذا التوقيت، من جهة، ومن جهة أخرى ضمان ألا ترتب ردة فعلها القوية ردًا مقابلًا من جانب الميليشيات فى سوريا والعراق ضد قواتها ومصالحها فى البلدين. كما يُرجح أن تُقدم إيران، بعد هذا الحادث، على مراجعة استراتيجيتها مع وكلائها فى المنطقة؛ منعًا لانزلاق الأمور إلى مساحات لا ترغبها طهران حاليًا، إذ إنها تؤكد مع كل موقف أنها لن تُقدم على الانخراط فى مواجهة مباشرة إلا إذا تمت مهاجمة أراضيها بشكل مُباشر.