مع طغيان حوادث الحروب الأمريكية “الإسرائيلية” فى منطقتنا ، توارت إلى الظل وقائع حرب أوكرانيا ، وإن بدت تطوراتها متصاعدة فى عامها الرابع ..
رغم إعلان الرئيس الأمريكى الحالى “دونالد ترامب” قبل نحو عام ، أنه سيوقف حرب أوكرانيا خلال 24 ساعة من لحظة دخوله إلى البيت الأبيض مجددا ، ثم مرت الشهور تلو الشهور ، وقضى “ترامب” نصف سنة فى رئاسته الجديدة ..
ولكن دون أن تنطفئ نار الحرب ، بل زاد لهيبها ، ربما لأن صاحب القرار فى حرب أوكرانيا هو الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” وليس “ترامب” ، الذى أجرى مع “بوتين” ست مكالمات هاتفية رسمية مطولة ، وأعرب بعد الاتصال الأخير عن إحباطه من “بوتين”، وأوحى بالعودة إلى مد أوكرانيا بالصواريخ والذخائر بعد توقف جزئى محدود ، فيما كان رد “بوتين” عاصفا فى الميدان الحربى ، ورقيقا ـ ربما ساخرا ـ فى الميدان الدبلوماسى ، وداعيا “ترامب” من خلال تصريحات الكرملين والخارجية الروسية إلى الاستمرار فى بذل جهوده الحميدة لإحلال السلام (!) .
ولكن ماهو الفارق ؟ ، الذى يجعل كلمة الرئيس الأمريكى تبدو مسموعة آمرة فى منطقتنا وحروبها ، بينما يجرى تجاهلها بخشونة فى حرب أوكرانيا ..
رغم إشارات “ترامب” المتعددة لعلاقة صداقة خاصة غامضة الدواعى مع الرئيس الروسى ، الجواب المباشر ظاهر فى حالة العالم اليوم ، وهو يمر بمراحل انتقال عسيرة من عالم القطب الأمريكى الواحد إلى دنيا تعدد الأقطاب ، وفيما تبدو منطقتنا المنكوبة أشبه بالربع الخالى إلا من سطوة أمريكا المتصلة لعقود طويلة مريرة ، بينما يطل النفوذان الصينى والروسى على نحو خجول ، وعبر نوافذ متناثرة من إيران إلى مصر والجزائر ، بينما الوضع فى شمال العالم مختلف ، ومن حول أوكرانيا وشمال المحيط الهادى بالذات ، ورغم وجود اختراقات صينية اقتصادية غالبا فى منطقتنا ، غير أن أثرها الإجمالى يبدو محدودا بالذات فى حوض الثروة الخليجية ، بينما تتصاعد أمارات التنافس فى المنطقة الأوراسية ، ومن حول الثقل الجبار للصين المدعوم من روسيا ، وعبر تكتلات من نوع “تحالف شنجهاى” ، وروابط روسيا مع كثير من جمهوريات آسيا الوسطى الخارجة من معطف الاتحاد السوفيتى السابق ، مع تضاعف معدلات التبادل التجارى والتكنولوجى بين بكين وموسكو ، وهو ما جعل اقتصاد روسيا يبدو عصيا على الكسر ، رغم فرض الغرب مازاد إلى اليوم على العشرين ألف عقوبة على الاقتصاد الروسى ، إضافة لعلاقة تحالف متنامية بين السلاح الروسى والسلاح الصينى ، وإن احتفظ كل طرف بهامش استقلال ضرورى ، جعل معدلات نمو وامتياز السلاح الصينى تفرض نفسها ، فالصين توالى تطوير أسلحتها البحرية ، وتدخل باقتدار فى مضمار صناعة حاملات الطائرات ، إضافة إلى سبق مذهل تحققه فى مجال صناعة القاذفات الشبحية ونظم الدفاع الجوى الأحدث ، وهو ما كان له أثره الظاهر فى علو كعب باكستان خلال حربها القصيرة الأخيرة مع الهند ، التى تفاخر “ترامب” بدوره فى إيقافها ، وإن ردت عليه الهند الأقرب للتحالفات الأمريكية بالإنكار، فيما سكتت باكستان الأقرب عسكريا للصين ، وإن بدت الصورة فى قلب آسيا وجنوبها أكثر تعقيدا ، فلا تزال موسكو هى المورد الأول للسلاح إلى الهند ، بينما الخلافات التاريخية الحدودية بين الهند والصين متصلة ، ولا تعيق حركة التبادل التجارى ، فالصين هى الشريك التجارى الأول للهند كما لباكستان ولروسيا نفسها ، والوضع ذاته سائد لصالح الصين مع الاتحاد الأوروبى وأمريكا ذاتها ، فضلا عن الاجتياح الصينى التجارى مع أفريقيا ، وتلك حالة يحاول “ترامب” أن يحد منها بحروبه الجمركية ، ولكن من دون نجاح كبير حتى اليوم ، فالطاقة الإنتاجية للصين تعدت منافسيها بأشواط بعيدة ، وربما لم يعد لأمريكا من امتياز ظاهر إلا فى مجال شركات التكنولوجيا الكبرى ، وهو المجال الذى تزاحم فيه الصين بقوة ، وتصنع لنفسها فضاء عالميا متسعا ، بدا فى توسع منظمة “بريكس بلس” ، التى انضمت إليها “أندونيسيا” ـ أكبر دولة مسلمة ـ فى قمة البرازيل الأخيرة ، وتلعب الصين مع روسيا أدوارا متناسقة فى دعم “بريكس” وتوسيع نفوذها الاقتصادى ، وقد صار أكبر من النفوذ الاقتصادى لمجموعة “الدول السبع الكبرى” الملتفة حول واشنطن ، وإن كانت مشكلة “بريكس” أنها جسد اقتصادى تجارى بلا ذراع عسكرى جامع ، بينما التعاون العسكرى فى قلب “البريكس” بين الصين وروسيا ذاهب إلى آفاق متطورة ، لها الدور الأساسى فى خدمة صناعة السلاح الروسى المتقدم تكنولوجيا، وإلى حد أن “مارك روته” سكرتير حلف شمال الأطلنطى “الناتو” قال مؤخرا ، أن روسيا تنتج سلاحا فى ثلاثة شهور قدر ما ينتجه الغرب كله فى سنة كاملة .
والمعنى ببساطة مما سبق ، أن يد أمريكا تبدو طليقة ناهية آمرة فى منطقتنا ، بينما تبدو اليد نفسها مقيدة فى مناطق أخرى ، وربما مشلولة فى حرب أوكرانيا مثلا ، ويستطيع “ترامب” هناك أن يقول ما يشاء ، لكن روسيا بدعم صينى هى التى تفعل ما تشاء ، واللعبة هناك محجوزة مفاتيحها للرئيس الروسى ، وهذا ما تشهد به وقائع الشهور الستة الأخيرة منذ عودة “ترامب” للرئاسة ، فقد تصور “ترامب” أن ادعاءاته “السلامية” قد تجدى هناك ، وأن بوسعه اقتسام كعكة أوكرانيا مع موسكو ، وسارع إلى عقد اجتماعات ومفاوضات سلام من “الرياض” إلى “اسطنبول” ، لكن بوتين احتفظ دائما بالكرة بين أقدامه ، وأرهق “ترامب” وأغرقه فى دوامة الاقتراحات والمبادرات والمراوغات ، التى كانت رؤية “بوتين” فيها ظاهرة بلا التباس ، فهو يعطى “ترامب” من طرف اللسان حلاوة ، لكنه لا يحيد أبدا عن أهدافه المعلنة فى حرب أوكرانيا ، وهو يدرك أنها حرب ذات طابع عالمى تجرى فى الميدان الأوكرانى ، تواجه فيها روسيا تحالفا من 54 دولة تقودها أمريكا ، وسعى “بوتين” إلى تحييد واشنطن وإخراجها قدر الإمكان من ساحة المواجهة الجارية ، ثم الانفراد بأوروبا وإنهاكها فى الميدان العسكرى ، واستنفاد كثيرا من بهلوانيات “ترامب” وتنازلاته المعلنة لصالح موسكو ، ومن نزعته العدوانية المتعالية على حلفاء أمريكا الأوروبيين ، ومن احتقاره البادى للرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى” ، وعبر الشهور الستة الماضية ، بدا أن خطة “بوتين” تؤتى أكلها ، رغم عودة “البنتاجون” إلى مد أوكرانيا بشحنات صواريخ “باتريوت” بعد انقطاع موقوت ، اشتكى فيه “ترامب” من نقص المخزونات الأمريكية ، فيما واصلت أوروبا إمداد الميدان الأوكرانى بكل ما تملك من سلاح ، وتظاهرت بقبول شروط “ترامب” رفع إسهامها المالى فى موازنة “الناتو” إلى 5%من الناتج القومى ، وإن راوغت بتأجيل التنفيذ الكامل إلى عام 2035 ، لكن “ترامب” بدا سعيدا بإنهاك أوروبا ، وهو ما ظهرت ملامحه فى دول أوروبا الغربية الكبرى ، ففيما بدت بريطانيا وألمانيا أكثر تصميما على مواجهة “بوتين” ، وتصعيد نبرات العداء لروسيا فى تصريحات وأفعال رئيس الوزراء البريطانى “كير ستارمر” والمستشار الألمانى الجديد “فريدريش ميريتس” ، وزيادة توريد المال السلاح والصواريخ بعيدة المدى إلى أوكرانيا ، وتأييد ودعم اختراقات أوكرانية خاطفة ، كان أهمها ضرب قاذفات استراتيجية فى مطارات شرق روسيا ، فيما بدا “ترامب” متفهما لضرورات الرد الروسى ، الذى جاء خلافا لتوقعات كثيرة ، وركز على قصف المطارات وقواعد الدعم الأوروبى فى كل مساحة أوكرانيا ، ولم يلجأ لقصف نووى تكتيكى ، بل وجه طاقته لقضم تدريجى متسارع لأراضى المقاطعات الأربع التى أعلنت روسيا ضمها (لوجانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون) ، وأضاف إليها بعد تحرير مقاطعة “كورسك” الروسية مقاطعات أخرى ، لم تتوقف عند حد اقامة مناطق عازلة فى مقاطعتى “خاركيف” و”سومى” ، بل أضافت توغلا عسكريا مدروسا إلى قلب مقاطعة “دنيبرو بتروفسك” غرب نهر “دنيبرو” ، وهو ما أشار إلى انفتاح شهية روسيا لضم المزيد من أراضى أوكرانيا ، ربما وصولا إلى “أوديسا” على شاطئ البحر الأسود ، ولا يبدو “بوتين” فى عجلة من أمره ، ولا فى حاجة إلى تغيير مسمى “العملية العسكرية الروسية الخاصة” ، فهو لم يعلن الحرب كاملة حتى الآن ، ولا حالة الطوارئ الشاملة ، ويسعى لامتصاص الضربات المعادية المؤذية إعلاميا لهيبة روسيا ، ويوفر جهده لكسب أراضى ما يسميه روسيا الجديدة أو “نوفو روسيا” ، وإنهاك الخصوم الأوروبيين ، وهو ما دفع الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” لمعاودة التواصل الهاتفى مع “بوتين”، ربما لحجز مكان فى تفاوض محتمل مع روسيا ، التى باتت أغلب الآراء الغربية تسلم بانتصارها فى الميدان الأوكرانى .
وبالجملة ، فات الميعاد على إمكانية قلب حقائق الميدان فى أوكرانيا ، وليس بوسع “ترامب” مواصلة استعراضاته السلامية هناك ، حتى وإن تحجج بخذلان “بوتين” ، الذى يدير اللعبة ويصفع “ترامب” بهدوء قاتل ، وبتماسك أعصاب لاعب الشطرنج المحترف ، وليس بشطحات “ترامب” المغرم بإطلاق التصريحات ، وليس بإطلاق القنابل والصواريخ والطائرات الأمريكية المهزومة فى الميدان الأوكرانى .