“عبدالحليم قنديل” يكتب :قنابل “بوتين” الناسفة لتحالف الغرب ..
انتصار "بوتين" كاسحا فى قمة "ألاسكا" حتى فى لغة الجسد ..
عبد الحليم قنديل
بدا الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” فى الفترة الأخيرة ، وكأنه يضع قنابل ناسفة تحت سرير تحالف الغرب الأمريكى الأوروبى ، فقد كان انتصار “بوتين” كاسحا فى قمة “ألاسكا” حتى فى لغة الجسد ، واستثمر ولع الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” بأداء أدوار “تليفزيون الواقع” ، بينما كان الواقع نفسه من نصيب “بوتين” ، كان كعب الرئيس الروسى أعلى من كعب “ترامب” ، بل ربما أعلى من رأسه الولهان المعجب بذكاء الرئيس الروسى ، وبنقلاته المفاجئة على رقعة الشطرنج العالمى ، فقد أعاد رسم خريطة السلام المستهدف بعد حرب أوكرانيا بسنواتها الثلاث ونصف السنة إلى اليوم ، وأزاح “بوتين” مطلب وقف إطلاق النار أولا عن موائد التفاوض ، ووضع قاعدة الاتفاق الشامل أولا قبل الحديث عن وقف النار ، وابتلع “ترامب” هجمة وحيلة “بوتين” الجريئة ، وراح يعرضها كأستاذ فى لقاء مهين مع سبعة من القادة الأوروبيين الكبار ، الذين ابتلعوها بدورهم مرغمين ، وسلم بها معهم الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى” ، الذى نجا هذه المرة من تكرار إهانة شهيرة ، لحقت به فى لقاء المكتب البيضاوى أواخر فبراير الماضى ، وخلع بزته العسكرية ليرتدى بدلة رسمية سوداء هذه المرة ، وعامله “ترامب” بلطف استدراجى فى اللقاء الثنائى ، لكن “ترامب” نقل ولعه بالإهانات هذه المرة إلى القادة الأوروبيين الملتزمين بكامل الأناقة الرسمية المصطفين أمامه ومن حوله على مقاعد منخفضة ، وتركهم “ترامب” فى حالة انتظار مترقبة لنهاية مكالمة مطولة ، أجراها “ترامب” مع “بوتين” ، ولم يعد لضيوفه بشئ محدد يشفى غليل الانتظار ، اللهم إلا سعى “ترامب” عند “بوتين” لترتيب لقاء مع “زيلينسكى” ، يعقبه لقاء ثلاثى يجمع “بوتين” و”ترامب” و”زيلينسكى” .
وبالجملة ، بدا “بوتين” فى وضع المرشد الهادى إلى سبيل التفاوض الرشيد ، وبكامل شروط روسيا المعلنة فى الميدان الأوكرانى ، فالقاعدة الأصلية فى التفاوض أى تفاوض ، هى أنه لا أحد يكسب على موائد الحوار بأبعد مما يصل إليه مدى مدافعه فى الحرب ، وفى هذه اللحظة من أعنف وأطول حرب استنزاف داخل أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية ، تبدو روسيا قاب قوسين وأدنى من الحسم العسكرى الكامل ، وتحقق تقدما عسكريا ظاهرا مطردا فى ميدان الصدام مع 54 دولة بقيادة واشنطن ، وتضيف بلدة وبلدتين وثلاثا يوميا فى هجومها طويل النفس ، الذى تسميه موسكو بالعملية العسكرية الخاصة ، ومن دون اضطرار لإعلان حرب وحالة طوارئ عامة تجاوز التعبئة المحدودة المعلنة بنسبة 1% لا غير ، بينما يتعافى الاقتصاد الروسى على نحو مذهل ، رغم فرض الغرب الأمريكى الأوروبى والعالمى لما يزيد على 24 ألف عقوبة اقتصادية ، لم تؤثر جوهريا فى الاستعداد العسكرى الروسى ، ولا فى نشاط المجمع الصناعى العسكرى الروسى ، الذى يزيد إنتاجه السنوى بأربعة أمثال ما ينتجه الغرب كله ، وهو ما أدى إلى مفارقة ظاهرة فى حساب النتائج ، كانت واشنطن عند طلقة بداية الحرب ، تسعى علنا لجعل أوكرانيا “أفغانستان ثانية” للروس ، فقد كانت حرب موسكو فى أفغانستان من عناصر إنهاك وانحلال الاتحاد السوفيتى السابق ، وأراد الغرب تكرار القصة ذاتها مع الاتحاد الروسى فى الميدان الأوكرانى ، وكانت المفاجأة التى دوخت وأنهكت الرهانات الغربية ، أن أوكرانيا وحربها تحولت إلى مقبرة و”أفغانستان ثانية” فعلا ، ولكن للأمريكيين وحلف “الناتو” هذه المرة ، فقد هربت واشنطن على نحو ذليل من أفغانستان بعد حرب العشرين سنة ، وها هو “ترامب” يكرر سلوك الهروب ذاته من حرب أوكرانيا ، وعلى طريقة قوله أن “أوكرانيا ليست حربى بل حرب الغبى جو بايدن” (!) .
وفى طريق الهروب المهزوم ، راح “ترامب” يبحث لنفسه عن طريقة أقل إذلالا ، وذهب يتخبط فى أوهام أعقب بعضها بعضا ، على طريقة زعمه فى حملته الانتخابية الأخيرة ، أنه قادر على إيقاف حرب أوكرانيا فى 24 ساعة ، لكنه وقع سريعا فى مصيدة “بوتين” ، الذى أجرى معه ست مكالمات هاتفية مطولة ، أحس معها بصداع مزمن فى رأسه الخالى إلا من الشعر البرتقالى ، أشعره أن “بوتين” يتلاعب به ، وراح يعرب مرارا عن ضيقه ، وإلى أن هدد بعد المكالمة السادسة الماراثونية ، وأعطى مهلة أخيرة للرئيس الروسى ، خفضها فيما بعد من خمسين يوما إلى عشرة أيام ، وأرسل مبعوثه الخاص المقاول “ستيف ويتكوف” للقاء بوتين قبل انقضاء المهلة بيومين ، وبدت رحلة “ويتكوف” ، وكأنها حبل إنقاذ للرئيس الأمريكى من ورطة تعهداته ، وتهديده بفرض عقوبات ورسوم جمركية إضافية عالية على موسكو وشركائها فى الصين والهند بالذات ، وكان قد مهد للتراجع قبلها ، وأعلن أن العقوبات لا تؤثر فى اقتصاد الروس ، وكان المخرج الذى سهله “بوتين” ، هو عقد لقاء قمة “ألاسكا” بين الرئيسين الأمريكى والروسى ، وبدا عقد اللقاء فى ذاته كأنه مقلب ساخر من أوهام عزل روسيا دوليا ، ثم بدت مجريات اللقاء ، وكأنها عناوين انتصار سياسى وتفاوضى جهير لصالح “بوتين” .
نجح “بوتين” أولا فى فرض جدول أعمال للتفاوض مع واشنطن ، أزال عن المائدة مطالب “ترامب” بوقف النار ، وركز بدلا من ذلك على حصد المكاسب الروسية ، والتسليم بأولوية خطوط القتال على الأرض ، وباع “بوتين” القصة للرئيس الأمريكى على أنها عملية تبادل أراضى ، بينما كل الأراضى موضوع التبادل تقع داخل حدود أوكرانيا ، التى سيطرت روسيا على نحو ربع إجمالى أراضيها شرقا وجنوبا ، من شبه جزيرة القرم وميناء “سيفاستوبول” ، إلى مقاطعتى الدونباس “لوجانسك ودونيتسك” ، إضافة لأغلب مساحات مقاطعتى “زاباروجيا” و”خيرسون” شرق “نهر الدنيبرو” ، ثم أجرت موسكو اختراقات أمنية عميقة فى مقاطعات “سومى” و”خاركيف” و”دنيبرو بتروفسك” ، وبدا أن موسكو تعرض مساحات محدودة جدا من الاختراقات الإضافية ، وبشرط الخروج الفورى للقوات الأوكرانية طوعا مما تبقى فى يدها غرب مقاطعة “دونيتسك” ، فلا تزال القوات الأوكرانية تحتفظ بمدن “كراماتورسك” و”سلافيانسك” وغيرها ، ولا يزال أكثر من ربع مساحة “دونيتسك” فى يد الأوكران ، والقوات الروسية تتقدم حثيثا للسيطرة على الربع المتبقى ، وهو ما يجرب “بوتين” أن يقتطعه بالتفاوض ، ربما لأهمية “دونيتسك” فى قلب منطقة “الدونباس” ، وهى المنطقة الأغنى بمنشآتها الصناعية المتطورة ومناجم معادنها الثمينة النادرة فى أوكرانيا كلها ، وهو ما يسيل له لعاب “ترامب” ، الذى يسعى لجنى فوائد اقتصادية من التعاون الاستثمارى مع روسيا ، وإن كان “بوتين” الأذكى يسعى لجنى مزايا أكبر ، تنهى سلاسل العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا ، واسترداد 300 مليار دولار أصولا روسية جمدها الغرب الأمريكى الأوروبى ، وهو ما يبدو أن “ترامب” يميل للتجاوب معه ، وبأمل يبدو كعشم إبليس فى الجنة ، هو أن يحاول فك صلات “العروة الوثقى” بين موسكو وبكين ، وبين “بوتين” ورفيقه الرئيس الصينى “شى جين بينج” ، وهو ما لا يقبل به “بوتين” طبعا ، فالرئيس الروسى يرى حرب أوكرانيا من وجهة نظر تاريخية أوسع ، ترى فى نتائج الحرب قنطرة عبور من عالم أحادى القطبية الأمريكية إلى عالم متعدد الأقطاب ، تكون روسيا فيه ـ إلى جوار واشنطن وبكين ـ طرفا ثالثا على خريطة القوى الأعظم عالميا .
وهكذا نقل “بوتين” حزم التناقضات إلى حجر الغرب كله ، وجعل “ترامب” رسوله الخاص إلى المهمة الكبرى ، فعلى “ترامب” أن يضغط ويقنع “زيلينسكى” بالتنازل عن الأراضى التى تريدها روسيا ، وضمتها رسميا ودستوريا ، ثم أن يضغط “ترامب” ويقنع الحلفاء الأوروبيين بالتنازل نفسه ، و”بوتين” يدرك جيدا سيكولوجيا “ترامب” ، الذى يكره الأوروبيين ، ويفرح بإهانتهم وابتزازهم ، على نحو ما جرى فى إرغامهم على مضاعفة نفقاتهم فى موازنة حلف “الناتو” ، وفى فرض قواعد علاقات تجارية مجحفة ، تحرم الأوروبيين من المزايا الجمركية السابقة ، وتجرهم لاستيراد غاز وبترول وسيارات ومنتجات غذائية أمريكية بكميات أكبر ، وعليه ـ أى على ترامب ـ أن يفرض على الأوروبيين شروط الرئيس الروسى لإنهاء حرب أوكرانيا ، وبإغواء “ترامب” بنيل جائزة “نوبل” للسلام ، ومفتاح الجائزة فى يد “بوتين” .
تبقى قصة الضمانات الأمنية لأوكرانيا ، التى لم يمانع فيها “بوتين” من حيث المبدأ ، وإن كان يرفض وجود أى قوات أوروبية على أراضى ما يتبقى من أوكرانيا ، بينما لا يبدو “ترامب” متحمسا للمشاركة فيها ، إلا فى حدود ضيقة ، لا تتصادم مع تعهده بعدم ضم أوكرانيا أبدا إلى حلف “الناتو” ، وقد لا تعبأ روسيا بأحاديث الضمانات كثيرا ، وقد سبق لروسيا ذاتها أن قدمت مع واشنطن ولندن ضمانات لأوكرانيا ، ووقعت على “مذكرة بودابست” أواخر عام 1994 ، ولم يحل ذلك دون التحرك العسكرى الروسى عام 2014 ، ولا دون العودة إلى الحرب الجارية اليوم ، وحتى إشعار آخر ، قد لا يجئ قريبا .