– يعد ديكارت أب الفلسفة الحديثة، ومن مؤسسي الحداثة، ذلك أنه اتجه إلى تثمين ميزة العقل في الإنسان ووطد قواه، اعتمد عليه كل الإعتماد من أجل بلوغ معرفة يقينية، واتجه بالفكر الفلسفي إلى أن يشمل آفاق أرحب ويبلغ حدودا قصوى .
– شبه ديكارت الفلسفة بشجرة، “جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفزيقا، والفروع التي تخرج من هذا الجذع، هي كل العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسية، هي الطب والميكانيكا والأخلاق”[١].
– في طريق بحثه عن الحقيقة اليقينة، مثل ديكارت تجربته الفكرية برجل يسير في الظلمات، وما يتطلب ذلك من حرص على التريث والسير ببطء وباحتراس، حتى وإن لم يتقدم كثيرا فعلى الأقل سيحمي نفسه من السقوط، وفي هذا السعي، وقف ديكارت طويلا باحثا عن سبيل يجعله قادرا على موازنة الحقائق وغربلتها، وهو الذي يقول عن نفسه هنا :” حتى أنني لم أشأ البتة أن أبدأ بنبذ أي رأي من الآراء التي انتقلت في وقت ما إلى نفسي بغير طريق العقل، إلا إذا أنفقت وقتا كافيا من إعداد خطة العمل الذي توليته في البحث عن الطريقة الصحيحة الموصلة إلى جميع الأشياء التي يقدر عليها عقلي”[٢].
– لقد اكتشف ديكارت في مواقف وفتراتةسابقة، أن مجموعة من المعارف والأفكار التي يحملها إنما هي مرتبكة وناقصة، بل إن تصديقها أمر يناقض العقل، وهي أمور تتعلق بما درسه بداياته التعلمية، وشملت ثلاث فنون أو علوم، كانت من بين أقسام الفلسفة، المنطق، ومن بين أقسام الرياضيات التحليل الهندسي والجبر، وفيها اكتشف بعض النواقص، وكانت دافعا له لتصحيحها وبنائها على أسس صلبة .
– انطلاقا من هذا السعي، تصحيح المعارف وحصد معارف يقينية، وضع ما سماه بقواعد المنهج، وهي أربع خطوات، جاءت كالتالي:
▪القاعدة الأولى الشك أو البداهة أو الوضوح : وهي الشك في كل ما يمكن الشك فيه ووضعه جانبا، كل شيء يقبل أن يشك فيه سيكون من الأَولى تجنبه، بمعنى، ” أن لا أقبل شيئا على أنه حق ما لم أتبين بوضوح أنه كذلك، من خلال تجنُّب التهور والتسرع في إطلاق الأحكام ، وألا أُقحِم في أحكامي إلا ما يتمثّل أمام عقلي في جلاء وتميّز بحيث لا يكون ثمة مجال للشك والريبة”[٣].
▪القاعدة الثانية وهي التقسيم أو التجزيء أو التحليل : ومعناها القيام بعملية تقسيم للمعضلات المراد حلها إلى أجزاء صغيرة قدر الإمكان كي يسهل الإلمام بها واحتواؤها، ويقول فيها ديكارت :” أن أقسِّم كل معضلة من المعضلات التي أعالجها إلى أكبر قدر ممكن من الأجزاء ؛ وهذا ضروري لحل المعضلة على الوجه الصحيح”[٤].
▪القاعدة الثالثة تسمى بالتركيب أو الترتيب : أي العمل على ترتيب الأفكار حسب صعوبتها، البدء من أيسر الأمور معرفة إلى أصعبها، وذلك، لبلوغ معرفة الأمور الأكثر تركيبا، من خلال ذلك، كما يقول ديكارت :” أن أسير بأفكاري بنظام الأشياء بادئاً بأكثرها بساطة وسهولة في المعرفة ، لأتدرّج قليلاً قليلاً حتى أصل إلى أعقدها وأكثرها تركيباً ، وأن أفرض نظاماً حتى بين الأشياء التي لا يتلو بعضها بعضاً”[٥].
▪القاعدة الرابعة والأخيرة وهي الإحصاء أو المراجعة : وهي التوجه إلى ما تم جمعه من معرفة واحصاؤه كي لا يتم إغفال أي عنصر، وعنها يقول ديكارت :”أن أقوم بعملية إحصاء شاملة ومراجعة كلية ، بحيث أتأكد من أنني لم أغفل شيئاً. أي أن أستعرض جميع استدلالاتي بحركة موصولة غير مقطوعة ، لكي أتفادى قدر المستطاع ذلك الخطر الذي قد ينجم عن تدخل الذاكرة في الاستدلال”[٦].
– هكذا نجد أن ديكارت جعل للتفكير والبحث في المعرفة الحقة، منهجا صارما، وهو أول من استعمل هذا المنهج، بدقة عالية، في كتابه تأملات في الفلسفة الأولى، حيث نلحظ أنه طبق هذه القواعد بدقة متعالية، انطلق من الشك في كل المعارف التي تلقاها، والمعرفة التي اقتبسها عن طريق الحواس، شك في كل شيء، من وجود العالم ووجود الكائنات إلى وجوده هو نفسه، ومن كل شيء، بقي أمر واضح لا يمكن الشك فيه، وهو فعل الشك ذاته، لم يكن بإمكانه الشك في أنه يشك، ومن خلال هذه النقطة، انطلق في البحث، وتبعه أمر أخر وهو التفكير فلا يمكنه أن يشك دون أن يفكر، ومنه استدل على وجوده (الذهني لا الجسدي)، فلا يمكن لشيء أن يفكر دونما أن يكون موجودا، ومنه وضع الكوجيطو المعروف ” أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود”، وتبعه بعد ذلك باستدلالات واثباتات عقلية على وجود النفس والعالم والله .
– إن ديكارت بنسقه الفكري هذا، فتح بابا أخر في الوجود الإنساني، العقل كما يصفه هو أنه أعدل قسمة وزعت بين الناس، صار الإنسان مجبرا على أن يفكر انطلاقا من العقل ذاته، ووجوده مرتبط بمدى قدرته على مساءلة العقل والاعتماد عليه، فالتفكير هو آلية الوجود الإنساني، بمعنى إذا لم تكن تفكر عقليا فأنت مازلت قاصرا على بلوغ مراتب الإنسانية على حد نظر ديكارت .
– لقد حرر ديكارت العقل الإنساني من الظلامية التي كانت تكبله، ونقى معارفه التي امتلكها سابقا من الشوائب، ليضع الإنسان في مركز آخر من الوجود، الوجود العقلاني، لقد كانت عقلانية ديكارت فاتحة لمجد إنساني.