من القضايا الكبيرة الملغزة التى تأتينا من كتب التفاسير، كنت قد توقفت مع الدكتور محمد سالم أبوعاصى أستاذ التفسير بجامعة الأزهر، عند كلمة الإسلام كما وردت فى القرآن وتفسيره لها، وهنا يبدأ بيننا الحوار من جديد.
■ الباز: يقرأ الناس فى القرآن «إن الدين عند الله الإسلام»، ويقرأون «ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا» ويقرأون «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علىّ وأتونى مسلمين» ويقرأون أيضًا «ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين»
كلمة الإسلام فى سياقها القرآنى ماذا تعنى؟
– أبوعاصى: كلمة الإسلام لها مدلولان وعدم التفريق بينهما يُحدث خلطًا وعدم فهم.
الإسلام فى المعنى اللغوى يعنى الاستسلام والانقياد، فكل من انقاد واستسلم لله فهو مسلم.
المعنى الثانى هو الإسلام باعتباره عَلمًا على الدين الذى جاء به سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم.
نأتى للآيات القرآنية سنجد أن الفهم الشعبى إذا صح التعبير عن فهم العامة أن كلمة الإسلام تعى الدين الذى جاء به النبى محمد، وهو ما قاله كثير من المفسرين، فقد قالوا «ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا» أى دين النبى محمد.
إذا قلت هذا الكلام فما هو موقف السابقين؟ هؤلاء الذين كانوا يعبدون الله على شعائر أخرى أو على رسالات أخرى، فآية «إن الدين عند الله الإسلام» معناها هنا الإسلام فى المعنى اللغوى أى الاستسلام والانقياد لله.
ما الذى يجعلنى أقول هذا؟
السياق الذى جاءت فيه الآية، فبعدها نقرأ «وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم»، هنا الإسلام يأتى فى سياق كلام عن أهل الكتاب، وهو هنا بمعناه العام الذى يندرج تحته كل من أسلم وجهه لله، وهو ما يتأكد فى الآية ١٩ من سورة آل عمران «إن الدين عند الله الإسلام».
■ الباز: هذه هى الآية المحورية فى هذا الموضوع بالفعل؟
– أبوعاصى: المؤسف أن بعض المعاصرين يقولون إن المراد بالإسلام هو فقط ما نزل على سيدنا محمد، وعليه فأى إسلام آخر أو رسالة أخرى، أو أى دين آخر هو مرفوض تمامًا، إذا صدقنا ما يقولون، فماذا نفعل فى قول الله تعالى «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة»، فهذا كلام فى شأن الأنبياء جميعًا، وعندما نقرأ قوله «وله أسلم من فى السماوات والأرض» سنتأكد أن المعنى المقصود هو الانقياد والخضوع.
والمعنى الذى أستريح له هو أن من يبتغِ غير الإسلام دينًا، يعنى من لم يقبل الدين أو الرسالة السماوية أيًا كانت ويعرض عن الخضوع والاستسلام والانقياد لله، فلن يقبل منه، أما حصرها فى أن المراد بالإسلام ما جاء به سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، فنحن بذلك نضيق المدلول الواسع الذى يؤيده السياق.
■ الباز: وما يتعلق بـ«وما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا»… كيف نفهمها؟
– أبوعاصى: تعنى أن سيدنا إبراهيم كان خاضعًا ومنقادًا لله وحده.
■ الباز: تعلم يا دكتور أن هناك من يحاول مصادرة النبى إبراهيم، وهناك الآن حديث عن الديانة الإبراهيمية… كيف ترى ذلك؟
– أبوعاصى: سأقول لك، لو قلنا إن الإسلام هو ما جاء به النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، فما هو موقف إبراهيم الذى جاء قبل النبى محمد، وما موقف سيدنا سليمان الذى قال «أتونى مسلمين»، ولذلك أقول إن حصر الإسلام فى القرآن فى أنه دين محمد، صلى الله عليه وسلم، يمثل فهمًا غير صحيح، ولا يؤيده المعنى القرآنى، لكن الإسلام بمعناه العام أخذ به الإمام محمد عبده وكثيرون ممن تأثروا به، لأن دلالة السياق مهمة جدًا.
■ الباز: معرفة السياق مهمة جدًا فى مرحلة الفهم بالطبع؟
– أبوعاصى: معرفة السياق تقطع النزاع، فحتى المفسرون يختلفون فيما بينهم، فعندما تقول أنا مع هذا الرأى لأن السياق يؤيده ينهى ذلك النقاش، وهو ما لم يلتفت إليه المفسرون القدامى.
■ الباز: دعنى أسألك عن استخدام كلمة الإسلام فى القرآن سياسيًا، الجماعات المتطرفة استغلتها لتقول للناس إن ما تعتقده هو الإسلام فقط.. هل خدعوا الناس بذلك؟
– أبوعاصى: عندما كنا صغارًا، كنا نفهم من المشايخ المتشددين أن الإسلام هو ما جاء به محمد، صلى الله عليه وسلم، وأن أى دين آخر وأى رسالة أخرى غير مقبولة مهما عمل صاحبها، وهذا الكلام يتنافى بالطبع مع قوله تعالى «لا إكراه فى الدين».
■ الباز: «لا إكراه فى الدين»
الدين هنا هو الإسلام أو أى دين؟
– أبوعاصى: أى دين بالطبع، وقد قلنا إن إكراه الإنسان على الاعتقاد يساوى إلغاء إنسانيته، ودعك من الدين، إكراه الإنسان على أى عمل يجعل منه آلة لا فكر ولا عقل.
لا إكراه فى الدين معناه أى معتقد دينى، لا أحد يملك إكراه الناس على الإسلام أو غير الإسلام، وإذا جئت إلى دين الإسلام الذى جاء به محمد، صلى الله عليه وسلم، ستجد أنه لا يريد من الإنسان أن يدخله إلا مختارًا مستسلمًا لله عز وجل، وأعتقد أن كل الخلط الذى يحيط بمسألة الإسلام ومعناه سببه فهم الجماعات وانتشارها فى حقبة من الزمن كان الشعار المعلن فيها مواجهة الشيوعية، ووقتها كل من قرأ كتبًا ركب المنابر، وكل من يعرف كلمتين يخطب الجمعة.
■ الباز: هذه الجماعات وصل بها الحال إلى رفع شعار دال وهو «الإسلام هو الحل» والإسلام هنا بمعناه الخاص وليس العام كيف ترى هذا الشعار؟
– أبوعاصى: لا أريد أن أذكر أسماء، لكن أحد الكتّاب الكبار ألّف كتاب «الإسلام هو الحل» وفى حديث عابر سألته، كيف سيحل الإسلام المشاكل الاقتصادية؟ لا تقل لى شعارات والسلام، لا بد أن تقدم حلولًا عملية للمشاكل التى يعانى منها الناس، وفوجئت به يقول لى حل مشكلة الفقر تأتى من قول الله تعالى «ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب»، دون أن يدرى أن مفهوم التقوى نفسه يحتاج إلى تحديد، الآية القرآنية صادقة ما فى ذلك شك، لكن من هو المتقى الذى سيجعل له الله مخرجًا، ثم هل أى إنسان يتقى الله يجعل له مخرجًا؟ أم أن المخرج يكون خاصًا بالمتقى المسلم فقط… هذه قضية مهمة.
■ الباز: بمنهج القرآن.. هل «مَن يتق الله يجعل له مخرجًا» سُنة كونية أم سُنة اجتماعية؟
– أبوعاصى: من وجهة نظرى سُنة كونية، لكن المهم أن نحدد ما هى التقوى ومن هو المتقى؟
■ الباز: الناس يقولون دائمًا نحن نتقى الله؟
– أبوعاصى: هنا سؤال مهم، وهو فى أى شىء تتقى الله؟ يعنى مثلًا أنا أتقى الله فى البيع والشراء ولكن لا أخرج الزكاة، هل أنا هنا متقٍ، وهناك آية أخرى تقول «إنما يتقبل الله من المتقين».
■ الباز: المتقون من المسلمين أم من عموم الناس؟
– أبوعاصى: من عموم الناس بالطبع.
■ الباز: أتفق معك تمامًا فالقرآن كتاب عالمى جاء لكل الناس، ولا بد أن تكون قواعده إنسانية عامة، ولذلك دعنى أسألك عن فكرة الاستعلاء بالإيمان، وهى فكرة ترددها هذه الجماعات، وهو مصطلح ردده سيد قطب ويعمل به من يؤمنون بدعوته.. كيف تنظر إلى هذا المصطلح؟
– أبوعاصى: هذه قضية نفسية بالأساس، لكن أولًا أحب أن أقول إن كلًا منا لا يستطيع أن يعرف مصيره، وهل سيدخل الجنة أم النار؟ ولا يستطيع أحد أن يجزم أن أكبر الصالحين سيدخل الجنة أو أن أكبر الفاسقين سيدخل النار، مصائر الناس بيد الله وحده، ومن فضله أنه لم يجعل مصائرنا فى يد بعضنا البعض، من سيحاسبنا هو الله، ولا أحد يملك مفاتيح الجنة أو النار، ولا أعرف مصيرى ولا مصيرك، وعليه لا يملك أحدنا ما يستعلى به على الآخر، ولا يستعلى إلا من عنده كِبر أو يعانى من مرض نفسى، والأخطر ليس الاستعلاء بالإيمان، فأخطر منه الاستعلاء بأمور ليست جوهرية فى الدين.
■ الباز: ماذا تعنى بالاستعلاء بأمور ليست جوهرية فى الدين؟
– أبوعاصى: بمعنى أن يستعلى أحد على الناس لمجرد أنه يرتدى جلبابًا قصيرًا أو يطلق لحيته أو يصلى فى المسجد، وهذا ظهر لدى الجماعات المتطرفة، يقول لك لا تشترِ من فلان واشترِ من فلان، يقول لا، هذا لا يجب أن يدخل المسجد لأنه غير ملتزم، وعندما كان يتقدم شخص لخطبة فتاة يقولون لك اختبر التزامه، فيسألونه فى أمور العقيدة والعبادة حتى يحكموا على التزامه، والغريب كان الناس يقولون إن الشخص ملتزم، لأن جلبابه قصير ولحيته كثة، فهم يستعلون بأمور غير جوهرية وهى طبيعة الجماعات.
■ الباز: هناك استعلاء بالجماعة أيضًا؟
– أبوعاصى: طبعًا هذا يحدث، ولعلك تذكر بعد تولى محمد مرسى الرئاسة كنت تمشى فى الشارع فتجد من ينتمون إلى الجماعة ينظرون إليك نظرة فوقية، وكأن كلًا منهم أصبح رئيس الدولة.
■ الباز: أحد قيادات الإخوان اعتبر أن ابنه الذى أراد أن يتزوج من فتاة غير إخوانية يستبدل التى هى أدنى بالتى هى خير؟
– أبوعاصى: نعم.. لأنه يعتبر نفسه يمثل الإسلام، ويسعى للوصول إلى الحكم لينفذ أفكاره، لأن هذا هو الهدف، فهؤلاء مجرمون، قتلة السادات مجرمون حتى ولو كانوا ملتحين، ويقولون إنهم قتلوا السادات لإصلاح البلد، وهو كذب مفضوح، لأن إصلاح البلد لا يمكن أن يكون بالقتل.
■ الباز: حتى لو دفعوا بأنهم يريدون الإصلاح فكلامهم مرفوض لأنهم يرتكبون جريمة؟
– أبوعاصى: هذا ما يجعلنى أقول إننا فى حاجة لغربلة الفكر، وهذا يأخذ وقتًا طويلًا لترسيخ الفكر الصحيح للدين فى الناس، لكن اليوم ما يحدث غير هذا، كلام الدعاة روتينى وعظى وقديم يدغدغ المشاعر، كلامهم لسد الفراغ لا جرأة فيه على الإطلاق.
■ الباز: خطب الجمعة التقليدية جعلت كثيرين يذهبون للمساجد على الصلاة مباشرة حتى لا يسمعوا الخطبة التى لا تتجاوب عادة مع متغيرات حياتهم، ولو ذهبوا تجدهم نائمين فى الغالب، يشعر الناس بأن الخطاب لا يعنيهم فى شىء؟
– أبوعاصى: وهو ما يجعلنى أعاود التأكيد على ضرورة الاستعانة الكاملة بالقرآن الذى هو غذاء القلب والوجدان، فالقرآن يخاطب العقل والمشاعر، وهو ما يجذب الناس إلى أى حديث، فعندما أخاطبك يما يتناسب مع عقلك وقلبك تنصت، لكن عندما أتحدث معك بما لا يتناسب مع أحاسيسك أو وجدانك ستنصرف عنى.
وخُذ بعض الأمثلة على ذلك.
فعندما يقول القرآن «أم خُلقوا من غير شىء أم هُم الخالقون» يقرر لك قاعديتن أو يرسى قانونًا فلسفيًا، فلا يوجد شىء دون سبب، فهنا حديث للعقل.
وساعات يحذف القرآن محذوفات كثيرة اعتمادًا على عقلك، يتركك أنت تفكر، لأنه يريد أن يحرك عقلك، وقد أحصى بعض العلماء كلمة «أولى الألباب» فى القرآن فوجدها ١٨ مرة، أما نظائرها فتصل إلى ٣٤ مرة، وكلمات النظر والفكر والتدبر حوالى ٣٨ مرة.
وعندما نراجع كتاب «التفكير فريضة إسلامية» للعقاد سنجده يذكر أكثر من ٣٠٠ آية فى مسألة التفكير، وحديث عن العقل ووظيفته، وهو ما جعله يقول إن التفكير فريضة إسلامية، تحدث عن الاستدلال والاستنباط والاستخراج باعتبارها عمليات عقلية.
ومشكلة التيار السلفى أنه ليس استنباطيًا ولا استدلاليًا ولا تأمليًا، بل هو ناقل فقط، ولذلك لا يتوفر لهم العمق اللازم، إننا لسنا فى حاجة إلى خطب عبارة عن كلمتين والسلام، ولكننا فى حاجة إلى خطب تقول ما هو الإسلام وأهدافه العامة ومقاصد القرآن، ويمكن أن يصاغ هذا الكلام بأسلوب سهل وبسيط.
لا بد أن يجد الناس أنفسهم فى المساجد، فالشاب إذا لم يجد نفسه عند العالم أو الداعية سيذهب إلى السوشيال ميديا، وهى مواقع كل مباح لكل من يكتب.
■ الباز: أغلب ما ينشر فى مواقع التواصل بالفعل لقيط؟
– أبوعاصى: وكان طبيعيًا أن تستغل هذه الجماعات هذه المواقع لنشر أفكارها.
■ الباز: استخدموا هذه المواقع لتجنيد الشباب وإصدار الأوامر لهم لتنفيذ عمليات إرهابية… السوشيال ميديا تحولت إلى منصة إرهابية؟
– أبوعاصى: للأسف معظمنا انسحب من الساحة، يعنى بلد فيه الأزهر الشريف أكبر معقل إسلامى فى العالم قِبلة المسلمين فى العلم، كان من المفروض ألا تظهر فيه جماعات متطرفة أو إرهاب، وهذا هو المنطق، كان من المفروض أن يظل العلم فى المساجد وفى الساحات، هذه الأفكار التى نرفضها اليوم لم تكن موجودة فى مصر، ظهرت فقط مع ظهور جماعة الإخوان.
■ الباز: المؤسف أن هذه الأفكار المتطرفة اخترقت الأزهر أيضًا؟
– أبوعاصى: حدث هذا بالفعل، لكن أنا أقصد أن التطرف عبر التاريخ كان محصورًا فى بيئات معينة، لم يكن فى البيئة المصرية أبدًا، وحتى عندما بدأ ينتشر فى بلادنا كان ينبغى القضاء عليه من سنين، وكان يمكن أن يحدث هذا لو أننا نملك خطابًا دينيًا علميًا حقيقيًا، لكُنا استطعنا أن نفعل ذلك.. لكن للأسف الشديد ليس عندنا هذا الخطاب.