ما زالت إسرائيل تُعانى فى مواجهة «حماس»
يعمد كثير من المحللين، وباحثى مراكز التفكير، وإعلاميى التلفزة، إلى مواكبة كل حرب، أو توتر عسكرى، بمقارنة مُعتادة للقدرات العسكرية المتوافرة لدى طرفى الصراع، وهى مقارنة يتمكن الجمهور بعد معاينة نتائجها من إدراك الفوارق بين العدوين المنخرطين في النزال، ومن ثم يسهل جدا توقع اسم الطرف المنتصر.
لقد كان ذلك أمرا ميسورا ومضمون النتائج إلى حد ما في صراعات عديدة، لكن التاريخ يحفل ببعض المفاجآت في هذا السياق، وعندما تقع تلك المفاجآت يُنظر إليها على أنها مجرد استثناء يؤكد القاعدة، التي تفترض دوما أن كثافة النيران، ومستوى التسليح، واستدامة الإمدادات، وأعداد المقاتلين المدربين، هي عوامل ترجح كفة أحد طرفى الصراع على عدوه، وتضمن له النصر غالبا.
لكن متغيرات جديدة طرأت على ذلك الفهم السائد اعتبارا من منتصف القرن الماضى، حيث لم تكن تلك القاعدة قادرة على تفسير نتائج صراعات عديدة، مثلما حدث في الهند الصينية، وفيتنام، والجزائر، وأفغانستان، ومناطق أخرى، إذ لم تنته العمليات العسكرية بين قوة أضخم وأكثر تنظيما وتكاملا وعتادا وأخرى أقل منها بكثير بالنتيجة المتوقعة و«المنطقية». وفى البحث عن الأسباب وراء ذلك التغيير، برزت عوامل عديدة، بعضها يتعلق بالمواقف السياسية الدولية، أو الرأى العام العالمى، أو حتى عوامل «الحق االأخلاقى والقانونى».
لكن أكثر تلك العوامل تمتعا بالقدرة على الإقناع كان يتعلق ببروز مفهوم حربى جديد، وهو مفهوم «الحرب اللامتماثلة» Asymmetric Warfare. يختلف كثيرون في منشأ مصطلح «الحرب اللامتماثلة»، لكن يبدو أن أول تعبير متماسك عنها ورد في بحث نشره «أندرو ماك» في دورية «السياسات العالمية»، في عام 1975، تحت عنوان: «سياسات الصراعات اللامتماثلة»، وهو البحث الذي سعى إلى الإجابة عن السؤال: لماذا قد تخسر جيوش كبيرة معارك صغيرة؟.
وفى محاولة لشرح هذا المفهوم، يركز المحلل الاستراتيجى الأمريكى «وليام ليند» على مفهوم «اللامركزية» فيما يتعلق بـ «الحرب اللامتماثلة»، فيصفها بأنها «صراع يتميز بعدم المركزية وعدم التماثل بين الأسس والعناصر المتحاربة».
يعنى هذا ببساطة أن أحد الفريقين المتحاربين يجد أن عدوه يتفوق عليه في التسلح والتمركز والإمدادات والعمق الاستراتيجى، فيحاول أن يجد أسلحة أخرى يحارب بها معركته، غير تلك التي يمتلكها عدوه.
ويتمثل مفهوم «عدم المركزية»، في مقاربة «ليند»، في وضعية التمركز واختيار الجبهة ومزايا المبادرة، أما عدم التماثل فيتعلق بالمعدات والأسلحة المستخدمة.
سيقدم مفهوم «الحرب اللامتماثلة» التفسير الأكثر نجاعة لما يحدث الآن على الأرض في غزة، إذ تخفق إسرائيل، بكل ما تمتلك من أسلحة وعتاد وكثافة نيرانية، في تحقيق النصر على «حماس»، التي تحارب بوسائل أقل وأضعف بمراحل.
وبعد مرور أكثر من أربعة أسابيع على اندلاع القتال في غزة وغلافها، وبعدما استخدمت إسرائيل طاقة نيران هائلة، أوقعت آلاف الشهداء والمصابين، ودمرت قدرا كبيرا من البنية الأساسية والمبانى في القطاع، لا يجد القادة الإسرائيليون ما يقولونه عن العملية سوى أنها «صعبة»، وأنها كلفت الدولة العبرية «خسائر مؤلمة».
على نسق «الحرب اللامتماثلة»، ستُحكم إسرائيل حصارها حول غزة، وستُمعن في قصف منشآتها، وستقتل المزيد من المدنيين والأطفال والنساء، وستحول مناطق واسعة فيها إلى ركام، مستغلة تفوقا ساحقا في المدفعية والطيران والدبابات والمدرعات، بينما ستكون «حماس» تحت هذا الركام قادرة على توجيه ضربات موجعة، وستظل بعيدة عن الهزيمة، استنادا إلى قدرات هجوم خاطف ومركز، وبنية اتصالية تحت الأرض، ومعرفة عميقة بطبيعة ميدان المعركة لا يشاركها إياها الإسرائيليون.
يعتقد الباحثون المتخصصون في علوم الحرب أن هزيمة القوة غير المتماثلة لن تتحقق للجيش النظامى الذي يواجهها من دون عاملين أساسيين، أولهما نزع الشرعية عن الأولى، وإفقادها مساندة السكان المحليين، وهو أمر لا يبدو أن إسرائيل قادرة على تحقيقه على النحو المأمول.
أما العامل الثانى فيتعلق بضرورة تجريد الميليشيا المسلحة من ميزة اللاتماثل، عبر مواجهتها بأساليب حرب العصابات التي تجيدها نفسها، وهو أمر لا تقدر عليه إسرائيل أيضا، لأن إطار كفاءاتها العسكرية مُصمم على نسق الجيش النظامى، الذي يمارس عمله وفق قواعد وتكتيكات معلومة في أغلب الأحيان. ميزة أخرى تضيف إلى أسباب تفوق «حماس» في هذا النزال، وهى ميزة الضعف.. الضعف الفلسطينى و«الحمساوى»، الذي تجسده مشاهد قتل المدنيين وذبح الأطفال، وتنقله العدسات والأخبار، وهو الأمر الذي يزيد القيود على القوة العسكرية الإسرائيلية، ويضاعف الضغوط عليها، وقد يجبرها على تقديم التنازلات.