كتب – أحمد إبراهيم
.. يعد المسلسل التلفزيوني “رأفت الهجان” للفنان محمود عبد العزيز، ذروة الدراما التلفزيونية والعربية بل هو من أهم ما قدمت الشاشات العربية إبداعاً وتأثيراً، فهو سيمفونية وزخم إنساني وتاريخي ودرامي يمتلأ بالأحداث والشخصيات الفاعلة المتحركة المؤثرة بالأحداث ..
فلقد نجح المسلسل في الإستحواذ على نسبة مشاهدة ضخمة، ليس فقط على مدار سنوات عرضه الأول بأعوام 1988 و 1990 و 1992 ولكنه تمكن من أن يحافظ علي حيوية وسخونة وحفاوة استقباله الجماهيري الأول دافئاً حتي الآن، فمازال مسلسل رأفت الهجان يحتل صدارة المشاهدة عبر المنصات الإلكترونية وبالمواقع الموجودة علي الشبكة العنكبوتية الإنترنت.
بالتأكيد لم يكن هذا من قبيل الصدفة ولكن لأنه عمل فني ودرامي توافرت به وتضافرت فيه كافة عوامل ومقومات التكامل الفني والجماهيري ..
شوراع خاوية
فالمسلسل التلفزيوني رأفت الهجان، المكون من ثلاثة أجزاء عند عرضه للمرة الأولى في رمضان عام 1988 شُهدت شوارع القاهرة خالية من المارة في ظاهرة غريبة درامياً لا تتكرر إلا نادراً في بلد الزحام طابع أصيل فيه ومكون من مكونات هوية وطبيعة أهله، فلقد تخطت متابعة مسلسل رأفت الهجان متابعات أي مسلسل آخر، وحقق نجاحاً منقطع النظير بأجزائه الثلاثة وقت عرضها الأول ..
.. قيمة إنسانية ..
إن مسلسل رأفت الهجان من الناحية الإنسانية، يكشف عن سر المعدن الأصيل للروح والشخصية المصرية، فهو يمثل إعادة اكتشاف لشاب مصري عاش ظروفاً أسرية ومجتمعية معقدة، أدت به لأن يكون شاباً متمرداً فوضوي صعلوك، يتحرك في دروب واتجاهات عدة لا تؤدي به لشئ، ولا يحقق من خلالها أي نجاح يذكر، فهو تارة محاسباً ومرة مشخصاتي أو ممثل ومرة بحاراً علي سفينة شحن تجوب به الموانئ، في النهاية رأفت الهجان هو نموذج للإنسان المتخبط التائه ..
حتي يلتقطه ضابط المخابرات المصري “محسن ممتاز” أو “عبد المحسن محمد فايق” أحد الضباط الأحرار وأحد مؤسسي جهاز المخابرات المصرية وأبرع رجال جمع المعلومات في العالم أجمع ..
ليتحول هذا الشاب الهامشي الصفري، لرقم صحيح وعلامة مؤثرة في تاريخ وطنه بل وتاريخ الإنسانية كلها وبتاريخ العلوم الاستخبارتية تحديداً ..
ليقدم نفسه كنموذج للذكاء والمهارة القائمة علي العلم والمعرفة والتحمل والصمود، في معركة استخباراتية دامت لـ 13 عاماً، عاش خلالها هذا البطل بأرض العدو الصهيوني وبين مواطنيه المستفزين الأشراس ليالٍ طوال، يمارس عملاً بطولي ويؤدي مهامٍ من أدق وأصعب ما يكون، والتي تعني إحتمالات الخطأ بها الإعدام شنقاً أو رمياً بالرصاص ..
ولكنها طبيعة الشخصية والروح المصرية، التي تعرف الصمود والإبداع وقت المحن وفي الأزمات، ليكون هذا العامل الإنساني الذي قدمته دراما وأحداث مسلسل رأفت الهجان، والذي أبدع في صياغة مشاعرها وأفكارها الفنان محمود عبد العزيز واحدة من أهم المعاني والقيم والمقومات التي دفعت بالجماهير للإلتفاف حول هذا المسلسل والتمسك والإلتصاق به كلما مر الزمن أو فات بل فلقد اعتبرته أيقونه مصرية خالصة ..
.. قيمة تاريخية ..
.. لم يكن نجاح هذا العمل الدرامي للأسباب والمعاني الإنسانية التي تضمنتها رسائل مواقفه وأحداثه فقط، أو لبراعة الفنان محمود عبد العزيز في تجسيد الأفكار والمشاعر الإنسانية التي تعبر عن أحداث هامة وكبري في حياة الإنسان المصري والعربي إجمالاً، ولكن كان للواقعة التاريخية والظروف السياسية، التي أكدت أزلية وحتمية النضال العربي المصري ضد المعتد الصهيوني دور هام في نجاح هذا المسلسل، فالعمل يؤرخ لتسلل العدو الصهيوني للأراضي العربية ولفلسطين تحديداً مستغلاً فراغ سياسي وضعف وخنوع عربي بعد الحرب العالمية الثانية ليقتنص قطعة أرض من أطهر البقاع بالدنيا، فلسطين، مسري الأنبياء ومنبت المسيح عليه السلام، بها القدس ثاني الحرمين وكنيسة القيامة أعظم الكنائس وأقدمها، والذي يتمكن أيضاً من أن يستولي علي جزء من أرض مصر هي شبه جزيرة سيناء، ليكون ذلك بداية لصراع مباشر يستلزم الصمود والثأر والعبور لاسترداد الأرض، وهو ما نجح المسلسل في تسجيله، فأحداث المسلسل تبدأ مع بدايات الدولة الصهيونية ونشأة الوطن المزعوم لليهود، وبدأ عمليات الهجرة لهذا الوطن، ثم يتعرض لحرب بوسعيد 1965 ويمتد لنكسة 5 يونيو 1967 حتي عبور ونصر أكتوبر 1973 لنري بعيون الفدائي رأفت الهجان هذه التواريخ والحروب الهامة في عمر الوطن العربي ومصر تحديداً .. ويبدو أنه قبل مسلسل رأفت الهجان لم يستطع أي عمل درامي تقديم هذه المعلومات التاريخية الهامة بهذه التركيبة الدرامية السهلة والبسيطة والمشوقة والممتعة، التي أبدع في صياغتها وكتابتها أحداثها وسخصياتها الكاتب صالح مرسي الروائي والسيناريست الذي قدم العديد من الأعمال التاريخية والملحمية كأعمال “دموع في عيون وقحة والصعود للهاوية و حرب الجواسيس والبحار موندي” ..
فلقد نجح الكاتب صالح مرسي في تقديم قدوة وطنية وإذكاء روح الوطنية لدي الأجيال المتعاقبة مستثمراً شغف المصريين ورغبتهم من التعرف علي طبيعة رجال المخابرات وماهية عملهم وأدوارهم المهنية والوطنية، والتقرب من صفاتهم الإنسانية التي قدمها بشكل يغلب عليه الطابع الإنساني والتعامل القائم علي التفكير العلمي والسلوكيات القويمة والمنضبطة، البعيد عن العصبية والعنف ..
.. قيمة فنية ..
من الناحية الفنية والدرامية، يُعد المسلسل نقطة تحول هامة وذروة فنية في حياة ومشوار النجم محمود عبد العزيز التمثيلي ، حيث قدم 3 أجزاء بما يعد بـ 56 حلقة، استطاع خلالها أن يتلون ويتطور فنياً بشكل ملحوظ، فبأدائه التمثيلي الرخيم قدم عبد العزيز أداءاً صاعداً ملحوظاً يناسب الأحداث ويختلف في كل جزء عن الجزء الذي يليه، يزامن ويناسب التطورات التي تصادف الشخصية، وهذا بشهادة غالبية النقاد وأيضاً بتفضيل واختيار الجمهور لمتابعة هذا العمل التاريخي المخابراتي عن باقي المسلسلات والدرامات والأنواع التلفزيونية الأخري التي تعرض علي الشاشة الصغيرة ..
.. فريق عمل مميز ..
.. العمل الدرامي يحتاج دائما لفريق من الفنانين والفنيين المتميزين ليحقق النجاح الفني والجماهيري، وهذا ما توافر بمسلسل رأفت الهجان بداية من كاتب السيناريو المخضرم، صاحب الخبرة الطويلة في كتابة الأعمال الملحمية والمخابراتية، صالح مرسي، الذي استخدم تقنية الفلاش باك لسرد أحداث المسلسل وهو ما أكسب المسلسل الكثير من الإثارة والتشويق ..
وأيضا بسبب المخرج المتميز يحي العلمي الذي استطاع أن يُكون فريق متكامل من الممثليين المجيدين الفاهمين لطبيعة الأعمال التاريخية، إضافة لتمكنه من الحفاظ علي روح واحدة للمسلسل بالرغم من تعدد أجزائه وتفرقها علي مراحل زمنية وسنين متفرقة ..
حيث ضم المسلسل مجموعة كبيرة من النجوم كالفنانة يسرا، إيمان الطوخي، يوسف شعبان، نبيل الخلفاوي، فايزة كمال، محمد وفيق، تهاني راشد، حنان سليمان، أحمد ماهر ..
.. الديكور والملابس ..
.. أستطاع ديكور وملابس مسلسل رأفت الهجان أن تصنع تقارباً بين الجماهير وما يدور من أحداث أمامه علي الشاشة، هذا بفضل مهندسة الديكور قوت القلوب، التي تمكنت من استحضار أنماط وأشكال المباني والهندسة المعمارية للمجتمع الاسرائيلي بنجاح كبير، وهذا أيضا ما قامت به الأزياء التي جاءت مناسبة للمرحلة التاريخية التي دارت بها أحداث المسلسل بفترات الأربعنيات والخمسينات والستنيات ..
فلقد كانت أماكن الأحداث بالمسلسل متطابقة مع الأماكن الطبيعية بالأرض المحتلة، والتي كان أهمها شقة رأفت الهجان وشركته، إضافة لبعض الأماكن التي يتردد عليها للقاء الأصدقاء أو المسئولين بالكيان العبري ..
ولقد كان لقصة شعر رأفت الهجان وتصميمها المميز دور هام في تحقيق الإلتفات والجاذبية لهذا الشاب، فهي قصة شعر ملفته للإنتباه إضافة لأنها مناسبة للمرحلة التاريخية التي تدور فيها الأحداث ..
.. عمار الشريعي ..
.. كلنا تقريباً يعرف ويحب موسيقي مسلسل رأفت الهجان التصويرية التي صاغ أنغمها الموسيقار عمار الشريعي، والتي تعبر عن فهم عميق لمعني الدراما الملحمية والجاسوسية بالتحديد، فموسيقي عمار الشريعي تعد أحد أهم أعمدة التأثير الدرامي، فلقد عبرت نجاح عن أفكار وعواطف وصراعات البطل مع نفسه ومحيطه المضطرب الغامض في كل موقف أو تحول درامي هام، فنقلت لنا مشاعر الوداع والحنين والتوتر والفرح والحماس والصمود ببراعة وحققت تأثيراً معنوياً موسيقياً سبب قبولاً وجذباً جماهيرياً كبيراً لهذا العمل الدرامي ..
.. إن مسلسل رأفت الهجان لا يعد فقط عمل درامي وتلفزيوني ممتمع قدم الكثير من المعلومات عن فرد ومواطن مصري أو عن مؤسسة مصرية هامة ومحورية في حياة الإنسان المصري أو حتي عملاً يقدم معلومات كثيرة وثرية عن فترات زمنية وتاريخية في حياة وعمر الإنسان المصري والعربي، ولكنه يعد أيقونة لقدرة الإنسان المصري علي النجاح أيا كانت الظروف، وتمكنه من إعادة إكتشاف نفسه من جديد إيا كانت العقبات وأياً كان مدي ظلام وحلكة الظروف التي يمر بها ..