يحكي التاريخ حكايات ونوادر طريقه عن فئات من مجتمع بذاته داخل البلد عندما نتذكر بعض تفاصيل وحياة هؤلاء الناس نتخيل حياتهم ونتأمل تفاصيل توضح لنا ملامح هذا العالم الملئ بالأنس والترفيه ..عالم شارع محمد علي صندوق الحكايات .
ولكي ندخل هذا العالم ونفهم تطوراته يجب أن نفهم الفروق في التسميات بين العوالم والغوازى .
العوالم مفردها عالمه وأطلق هذا الاسم على الجوارى المميزات لأنهن كن نوعا راقيا من الجوارى الحسناوات لديهن علم بالموسيقى والغناء والألحان يجيدون الأهازيج والقصائد وقد غلا سعرهم لتميزهن عن بقية الجوارى .
أما الغوازى فكان ظهورهم فى مصر أواخر القرن الثامن عشر وترجع أصولهم إلى الغجر القادمين من قبيلة سندهى الموجوده في وادى الهندوس وقد انتشروا في العراق والشام أما من أتى منهم مصر فكانوا من المجموعه التي هاجرت إلى سوريا فزحف بعضهم إلى مصر وكان يطلق عليهم في سوريا النوار.
فى أواخر عهد محمد علي ظهرت الغوازى ترقص في شوارع القاهرة تميز رقصهن بالابتذال . كان يتم استئجارهم لإحياء الأعراس والموالد فانتشروا في جميع محافظات مصر .
بدأوا يتسحبون إلى أماكن وجود الجنود وجموع السياح .
كل تلك التصرفات جعلت محمد على يغضب وأمر بنفيهم إلى مدينة إسنا في الصعيد ومنع الرقص فى شوارع القاهرة .
مع نهاية القرن التاسع عشر اصبحت العوالم فئه لها اعتبارها وتكونت فرق فنيه شهيرة يطلبها الناس لإحياء حفلاتهم ولياليهم
فى عام 1863 عندما أعيد تقسيم أحياء القاهرة في عهد الخديوي اسماعيل تقرر إنشاء أول شارع مستقيم في القاهرة وكان وقت انشائه يتزامن مع بناء قصر عابدين صمم هذا الشارع ليصل قلب المدينة بالقلعة ويكون منطقة مرور المواكب والحفلات الملكية .كما شهد سير أول خط ترام في القاهرة
أطلق على هذا الشارع أسم محمد على نسبة إلى مؤسس مصر الحديثة.
لم يكن وقتها أحدا يتوقع أن يكون هذا الشارع هو أكبر مركز فنى لتجمع فيه العوالم والعازفين وأهل الفن .
من أشهر العوالم اللاتى سكن هذا الشارع بمبه كشر التي تربعت على عرش الفن لأكثر من نصف قرن ولدت عام 1860جدها لأبيها هو السلطان مصطفى كشر وهى الراقصة الوحيدة التى خرجت من أسره غنية بدأت ترقص منذ كان عمرها 13سنه وكانت تذهب الى الافراح على حمار .
بالنسبه لنظام الافراح فى هذا الزمن كانت تقسم إلى مجموعتين النساء بالأعلى والرجال بالاسفل فى البداية تصعد الراقصات للنساء ترقصن حتى تزف العروس إلى عريسها، بعدها تنقل الراقصات إلى أسفل عند الرجال ليرقصن ويغنين لهم بقية الليلة حتى الثانية او الثالثة صباحا .
كانت بدل الرقص 3جيبات وكانت البطون والصدور تغطيها الخرز والترتر
يروى التاريخ أن اشهر راقصات مصر ثراء هى شفيقة القبطية ومن شدة ثرائها يحكى أنها كانت تسقى خيولها بالشمبانيا وعندما سافرت باريس لترقص هناك رقصت وهى ترتدى حذاء بكعب عالي مصنوع من الذهب الخالص.
ومن المشهور أن نهايتها كانت مأساوية فقد وقعت في غرام شاب يصغرها بأكثر من ثلاثين عاما استولى على أموالها وأنفقها على مزاجه إذ كان مدمنا للمخدرات فأدمنت الخمر وتدهور بها الحال إلى أن امتهنت مهنة التسول .
إشتهرت فى شارع محمد عن أمينة شخلع التى ولدت لأب سودانى وأم مصرية وكانت شهرتها شخلع .
بعد الحرب العالمية الأولى سكن في الشارع عدد كبير من الأتراك كانوا يعزفون على العود
جاء من حلب رجل اسمه جميل جورج فأنشا دكان لصناعة العود وأصبح له منتج باسمه يعتبر من اشهر الماركات في العالم لصناعة العود ومازال المحل مستمر إلى يومنا هذا ويأتى للشراء منه جميع الجنسيات الأجنبية و العربيه خاصة السعودىين والكويتيين .
لا ينسى من راقصات الشارع نعمت مختار التى أطلقت عليها أم كلثوم السيمفونية وكان فريد الاطرش يطلبها في كل حفلاته والتي أنتجت لنفسها فيلم( المرأه التى غلبت الشيطان) بعدها
اعتزلت الفن وتفرغت لتربية إبنها .
أيضا المطربة سمحه المصرية التي اشتهرت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي ومثلت مع عبدالوهاب مسرحية انت وبختك عام 1923.
من ألطف النوادر أن الفنانه امينة رزق جاءت شارع محمد علي مع خالتها أمينة محمد واحترفت خالتها الرقص وكانت أمينة رزق ستحترف الرقص هى أيضا لولا أن رآها مدير فرقة رمسيس فأخذها لتمثل مع الفرقه التى كانت صاحبها يوسف وهبى .
يروى أن الراقصه زوبه الكلوباتيه كانت ترقص بشمعدان وزنه 10 كيلو فوق رأسها ولا تنطفأ شموعه طيلة الرقص .
كما جاء من فلسطين رجل فلسطينى بنى عمارتين واحدة أسماها يافا والاخرى حيفا سكنت فيهم اغلب الراقصات .
كما اشتهرت ثلاث قهاوى في الشارع الأولى كانت قهوة التجارة وكانت قبل قسم الموسكى كانت مقرا للفنانين الذين يقيمون الحفلات الكبيرة ومن أشهر المتعهدين الذين ارتبط اسمهم بتلك القهوه عرابى والجمل للحفلات الفاخرة .
أما القهوه الثانية فكانت قهوة طيور الصباح كانت صاحبتها سيدة تسمي حلاوتهم ؛ وتلك القهوه كان يجلس عليها فنانين ومتعهدين الحفلات الشعبية .
القهوة الثالثة كانت قهوة الكتب خانه وتلك القهوة لم يكن يجلس عليها الفنانين ولكن كان يجلس عليها الشعراء والأدباء لقربها من دار الكتب وقد إعتاد أن يجلس عليها عظماء امثال احمد رامى وكان مديرا لدار الكتب و حافظ ابراهيم و أحمد لطفى السيد وغيرهم من أعلام الثقافه وقتها الذين كانوا يترددون على دار الكتب الذى أمر على مبارك وزير المعارف فى1817 أن يجمع فيه كل المخططوطات والكتب النادرة النفيسة من جميع محافظات مصر فاختلطت بشارع محمد علي بالثقافة بالفن .
وكان اليهود يسكنون الضاهر وحى السكاكينى ووسط البلد فادخلوا في شارع محمد علي بيع الكمان ماركة ماركو وكانوا يجلبونها من إيطاليا .
واشهر من صنع القانون في شارع محمد علي هو ربيع شرف
كما سكن الشارع اسماعيل يس و شكوكو و شفيق جلال و عبدالحليم حافظ ومحمد رشدى وحسن إشأش وأسماء كثيرو كانوا يأتون من محافظاتهم. باحثين عن الشهرة والمجد في القاهرة وكانت دائما محطتهم الاولى شارع محمد على .
من الحوادث المشهورة التى حدثت لأحد راقصات الشارع كانت حادثة مقتل الراقصه امتثال فوزى فى عام1936 افتتحت امتثال صاله للرقص باسم كازينو البسفور بمنطقة الازبكية
في هذا الزمن كان لكل حى فتوه ولم تكن مهنة الفتوه مقصورة على المصريين فقط بل احتراقها كثير من الأجانب وكانوا يتمتعون بامتيازاتهم الأجنبية التى تحميهم .
كان الفتوات يأتون صالة امتثال يحتسون الخمر بلا مقابل ويطالبنها كغيرها بالإتاوة نظير الحماية فلما رفضت ضربوها فحررت لهم محضر لكن أفرج عن الفتوه فؤاد الشامى الذى كان فتوة عماد الدين وقتها فقد كان وقتئذ للفتوات نفوذا لدى أقسام الشرطة بدرجة كبيرة .أيضا كانت هناك تسعيرة لاعمال الفتوات من البلطجة وتاجيرهم فمثلا
تحطيم منزل ب50 قرش إحداث إصابات بجنيه احداث عاهة مستديمة لشخص ب10 جنيه تهديد شفهى أو مكتوب ب150 قرش هذا بالإضافة إلى تحمل من يستأجرهم اتعاب المحامى الذى سيدافع عن الجانى الفتوة البلطجى وكذلك الاتفاق على مصاريفه طول فترة سجنه .
لم ترضخ امتثال لتهديدات الفتوة فؤاد الشامى وأخوه مختار فقتلها أحد رجال الفتوة برقبة زجاجة خمر مكسورة هذه الجريمه جعلت الصحافه وقتها تطالب بوضع نهاية لعصر الفتوات وقبض على فؤاد الشامى وحكم عليه بالاشغال الشاقة المبؤبدة وقضى كل مدة العقوبة .
أما قصة محمد على حسب الله صاحب فرقة حسب الله الشهيرة التى كانت تعزف وقتها للملوك والأمراء والبهوات فقد روى أنه كان يمتلك منزلا باعه واشترى علما من القصب وزاير ذهب لسترته وذهب بالعلم و36 فرد يعزفون أمام قصر عابدين احتفالا بعيد ميلاد الملك فاروق فانعم عليه الملك بالباشوية وأصبح محمد على حسب الله باشا .
ممن قدموا لشارع محمد على كان الشيخ على يوسف بحث عن مكان يكون ايجاره بسيط لييصبح مقرا لجريدة المؤيد ومن هنا انتشرت معامل الزونكوغراف المسؤوله عن الطباعه وتجهيز الجرائد والكروت وكل ما يتعلق بالطباعة وكان عامل الزنكوغراف يعرف من هيئته كانت يداه سوداتان من هباب الحبر والمطابع وملابسه عليها آثار مية النار ويرتدى قبقاب خشب .
أما جامع قوسون في شارع محمد على هو الجامع الذى كان حسن البنا دائم الصلاة فيه مع الإخوان المسلمين وعندما قتل خرجت جنازته من جامع قوسون .
شهد الشارع جنازة زعيم الأمه سعد زغلول وشهد جنازة الملك فؤاد .
حتى بعد ثورة يوليو كان الظباط الأحرار يمشون في مواكب وتعزف لهم الموسيقى في شارع محمد علي .
وإلى وقت قريب لم يعد يسكن في شارع محمد علي غير الاسطى عنبه وتلميذتها دوسه أخر من أطلق عليهم لقب العوالم .
أصبح شارع محمد علي الآن هو شارع لبيع الموبيليا والعفش واختفت الزغاريد والغناء والرقص ولم يتبقي من كل تلك الذكريات إلا بعض المحلات لبيع الأدوات الموسيقية؛ وهنا تنتهى رحلتنا عبر قصاقيص من عالم الأضواء والفن لعصرا مضى وفات .