في تخوم مدينة فاس العتيقة، أو كما يسميها المغاربة (المدينة القديمة)، يوجد مبنى من أقدم مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية بالعالم ويُعد الأول من نوعه الذي يعتمد العلاج بالموسيقى.. قبل أن يتحول اليوم إلى سوق تقليدية يقصدها المواطنون والسياح.
عُرف المستشفى باسم (مارستان سيدي فرج)، ويرجع بناؤه إلى الدولة المرينية في عهد السلطان يوسف بن يعقوب عام 1286 ميلادية / 685 هجرية.
وجاء في ثلاثة ألواح رخامية معلقة على جدار المبنى، كتُبت باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، أن مارستان سيدي فرج كان مصحة يُدَرَّس فيها الطب وتعالَج فيها الأمراض النفسية والعقلية حتى عام 1944 تقريبا.
كما تضمنت الألواح الرخامية التي كتبتها الجمعية المغربية لتاريخ الطب عام 1933 نبذة تاريخية عن المارستان، بغرض التعريف بتاريخه للسياح الأجانب والزوار المحليين.
وبحسب ما سُجل في الألواح، فإن السلطان يوسف بن يعقوب أوقف على المستشفى أملاكا كبيرة، الشيء الذي مكّنه من الوصول إلى أوج ازدهاره، خصوصا في القرن الرابع عشر الميلادي.
ورجحت الجمعية المغربية لتاريخ الطب من خلال النبذة التاريخية التي قدمتها أن يكون بناء أول مستشفى للأمراض النفسية في الغرب، وكان ذلك في بلنسية بإسبانيا عام 1410 ميلادية، مستوحى من مبنى مارستان سيدي فرج.
وقال محمد بن عبد الجليل أستاذ التاريخ سابقا بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس “من الأشياء التي خلّفها الأجداد بمدينة فاس وسبقنا بها العالم أجمع مارستان سيدي فرج، أو ما يطلَق عليه اليوم مستشفى الأمراض النفسية والعقلية“.
وأضاف في تصريح لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) إن مبنى المارستان القائم حتى اليوم بجوار ضريح المولى إدريس في المدينة العتيقة، حيث سوق الحناء حاليا، ينقسم إلى جزأين، جزء تم تجديده في خمسينيات القرن الماضي، وجزء ظل على حاله بدكاكينه التي كانت يوما غرفا لإيواء المرضى.
العلاج بالموسيقى الأندلسية
شُيد مارستان سيدي فرج بتصميم أندلسي شبيه بالرياض أو الدور المغربية التقليدية، وهي عبارة عن منازل بمساحات كبيرة تتكون من طابقين وتضم العديد من الغرف ذات الأبواب الضخمة، مع وجود فناء كبير تتوسطه نافورة ماء.
وكان الجزء الثاني من المارستان عبارة عن ساحة شاسعة بها أشجار ظليلة، حيث كانت تتجمع طيور اللقلاق وتُعقد جلسات الموسيقى الأندلسية لخلق جو من الهدوء والسكينة لمساعدة المرضى على الشفاء، وفقا لأستاذ التاريخ بن عبد الجليل.
وأضاف “أجمل ما ورد في تاريخ المارستان هو أنه كانت تقام فيه سهرات موسيقية لفن الطرب الأندلسي كل يومين تقريبا، حيث كانت الفرقة الموسيقية الأندلسية تعزف مقطوعات، أو كما يسميها الموسيقيون “نوبات”، من الموسيقى الأندلسية”.
وقال “كان يتم اختيار التوقيت والظرف الملائم لكل مقطوعة موسيقية، فإذا كان فصل الربيع مثلا يغنون عن الطبيعة والخضرة، وإذا كان التوقيت في المساء ينشدون مقطوعة شمس العشية الشهيرة بالمغرب”.
وأشار إلى أن فرق الموسيقى الأندلسية كانت تختار أيضا أغاني ملائمة للمرضى بهدف تسليتهم وتهدئة أعصابهم، وكان هذا جزءا مهما في العلاج.
من مستشفى إلى سوق
أصبح مارستان سيدي فرج اليوم سوقا تقليدية، وتحولت غرف علاج المرضى إلى محلات تجارية لبيع الملابس النسائية والرجالية. وفي فناء المصحة، تحولت الغرف التي كانت مخصصة للمرضى وكذلك المكاتب الإدارية إلى دكاكين لبيع الملابس وأواني الفخار التقليدية.
وفي القسم الثاني من المارستان، والذي كان عبارة عن ساحة كبيرة محاطة بالأشجار، حيث كانت تقام الجلسات الموسيقية، توجد الآن سوق الحناء التي تُباع فيها جميع مواد التجميل التقليدية من حناء وكُحل وسواك وعكار فاسي، وهو أحمر الشفاه التقليدي. كما تضم السوق بعض محلات بيع التذكارات للزوار الأجانب.
لكن لا يزال سيدي فرج معروفا بأنه كان مصحة لعلاج الأمراض النفسية والعقلية، حتى إنه يشيع بين أهل فاس أنهم عندما يريدون أن ينعتوا شخصا – على سبيل الهزل أو الجد – بأنه مجنون أو أحمق يقولون له “عليك بالذهاب إلى سيدي فرج”. وهناك أيضا مَثَل يرددونه في مثل هذه المواقف وهو “الزنقة عامرة وسيدي فرج خاوي”، وهو ما يعني أن الشارع مليء بالمجانين بينما المستشفى يخلو من مرضاه.
ويتبين من خلال البحث في تاريخ فاس أنه لا توجد شخصية تاريخية اسمها سيدي فرج بحسب ما قال بن جليل الذي أشار إلى أن الناس كانوا يعتقدون أن وقوع المارستان إلى جوار ضريح المولى إدريس، مؤسس مدينة فاس، يُكسبه بركة شافية.
وأضاف “في اعتقادي اسم (سيدي فرج) هو مجرد تعبير عامي ينطوي على الرجاء في أن تحصل معجزة الشفاء فيفرِّج الله بها الكروب”.