في طريقه لحصد لقب مخرج الروائع يعود إلينا فارس المسرح الاستعراضي المخرج الكبير دكتور عادل عبده برائعة جديدة من روائعه المسرحية، بعد أن أبهرنا في “سيرة الحب” و “سيد درويش” و”ألمظ وعبده الحامولي” وغيرها من العروض المسرحية الناجحة.
عاد دكتور عادل عبده هذه المرة برواية الأديب العالمي نجيب محفوظ “زقاق المدق” ليرفع سقف النجاحات والتحديات التي يفرضها على نفسه في كل مرة من أجل إسعاد جمهوره الذي اعتاد منه على التجديد والإبهار والمتعة من خلال عرض فني هادف وراق ومحترم.
باحترافية شديدة نجح دكتور عادل عبده في إخراج النص الذي أعده للمسرح وكتب أشعاره الكاتب الكبير محمد الصواف والذي نجح ببراعته المعهودة في التناص مع رواية أديبنا العالمي بعد أن حررها من الرمزية والإسقاط؛ فوجد الفنانون المشاركون في العرض أنفسهم في براح واسع أوجده لهم الصواف بموهبته المتفردة ، والتي سمحت لهم بالتحرر من شبهة تقليد من سبقوهم في تقديم الرواية عبر رائعة حسن الإمام السينمائية.
لا تتوقف قدرة المخرج عادل عبده عند تغيير القواعد الكلاسيكية للمسرح، ولكنها تتجاوز ذلك لتحطم القوالب الجاهزة التي يتم تقديم الفنانين فيها؛ فالرجل بجرأة شديدة يكتب شهادة ميلاد فنية جديدة لبطلة العرض الفنانة دنيا عبد العزيز ويقدمها في أهم أدوارها الفنية على الإطلاق ؛ كواحدة من أهم نجمات الاستعراض في العالم العربي .
في هذا العرض ستشاهد النجمة دنيا عبد العزيز كما لم تشاهدها من قبل ، فقد أعادت اكتشاف نفسها حين امتلكت من الشجاعة والثقة بالنفس ما يجعلها تقبل هذا الدور ، الذي يحتاج إلى جمال صارخ وأنوثة طاغية وموهبة استعراضية كبيرة، فنجحت في تقديم كل ذلك بمقدرة استثنائية وتفوق لافت ، وأظنها أنصفت من اختارها لهذا الدور ، وأحرجت كل الذين حصروها قبل هذا العرض في أدوار وقوالب محدودة.
ولو توقف الأمر عند النجمة دنيا عبد العزيز لقلنا إنه محض صدفة ، ولكن الساحر عادل عبده قادر على إدهاش جمهوره باستخراج المزيد من المفاجأت المذهلة من جرابه السحري الذي لا يتوقف عن إثارة الإعجاب فأخرج لنا هذه المرة قنبلته الفنية المدوية ، الرائع كريم الحسيني في دور سحس ابن المعلم كرشة.
النجم الموهوب كريم الحسيني ليس محل تقييم فهو يمتلك على صغر سنه تاريخًا حافلاً من الإبداع جعله من القلائل المتميزين في شرح وتبسيط فن التمثيل عبر السوشيال ميديا والندوات والبرامج التدريبية للراغبين في تطوير أدواتهم وأساليبهم في فن الأداء الصوتي والحركي.
اللافت في حالة النجم كريم الحسيني هو تفوقه في الجانب التطبيقي لما يقوم بتدريسه نظرياً، وهو شئ لو تعلمون عظيم ؛ لأن أساتذة كبار في الجانب النظري لفن الأداء لا يتألقون غالبا حين يخوضون تجربة التطبيق العملي، ولكن كريم الحسيني في هذا العرض يقدم نموذجا عمليا لتطوير قدراته الإبداعية كممثل تفوق على ذاته، وأعاد تقديم نفسه كفنان شامل يرقص ويغني ويُضحك ويُمتع المشاهدين بحضوره الطاغي لدرجة أنهم يفتقدونه في المشاهد التي لا يظهر فيها، ثم هو حين يدخل لخشبة المسرح يشعلها بطاقة إبداعية مشعة على زملائه في العمل.
رأيي أن طريق النجومية المطلقة بعد هذا العرض أصبح ممهدا تماما للنجمة دنيا عبد العزيز والنجم كريم الحسيني لأنهما بمساعدة المخرج اثبتا أنهما يستحقان أن تلتفت لهما كبريات شركات الإنتاج الفني لاستغلال قدراتهما الاستعراضية والغنائية المتميزة.
ويتردد القلم كثيرا حين يكتب عن الفنان الكبير مجدي فكري الذي وصفه العملاق الراحل أحمد زكي يوماً بالعبقري، ولا أظن أن رئيس جمهورية التمثيل الراحل أحمد زكي بالغ في وصفه لأداء الأستاذ مجدي فكري بهذا الوصف، لأن عبقرية مجدي فكري نابعة من إخلاصه الشديد لفن التمثيل وعشقه الكبير للمهنة، فالرجل ممثل قدير موطنه خشبة المسرح، التي يعتليها واثق الخطوة يمشي ملكا، نعم هو ملك شديد الاعتزاز بفنه، فلا يتنازل أبدا عن وقاره أو كبرياءه بحثا عن إفيه أو أداء حركي لا يناسب الشخصية التي يجسدها، وهكذا يتصرف الملوك. ثم تتضح معالم عبقريته بدرجة أعلى حين لا يخلو أداؤه الملكي من صعلكة سكير يتعامل مع خشبة المسرح كحانة يبحث فيها عن خمر يروي ظمأه ويُغيبه عن الواقع ليعيش في حالة من الوجد والعشق تتجلي معها أنوار موهبته كمعجزة صوفي متبتل في محراب الفن.
كل التحية والتقدير للممثل القدير بهاء ثروت العائد بعد غياب في دور “عباس الحلو”، وللفنانة الجميلة بثينة رشوان التي أبدعت في شخصية “أم حميدة” الخاطبة وللفنانة المتألقة شمس في شخصية “شوشو” الراقصة.
وللكوميديان الشاب مراد فكرى فى دور “زيطة”، وللكوميديان الرائع حسان العربي في دور الطبيب النصاب بوشي، وللفنان القدير أحمد صادق فى دور “عم كامل”، وللدكتور عبد الله سعد فى دور “سليم علوان”، وللكوميديان الرائع سيد جبر فى دور المعلم “كرشة”، وللفنانة مروة نصير فى دور “حسنية الفرانة”، وللأستاذ هانى عبد الهادى فى دور “جعدة”، وللفنان عصام مصطفى في دور “سنقر” القهوجي.
بقيت الإشادة بديكور محمد الغرباوى وموسيقى أحمد محيى وتوزيع ديفيد جميعى وأزياء د. مروة عودة
واللقطات السينمائية للفنان ضياء داود.
وجميعهم كانوا في أفضل حالاتهم الإبداعية ونجحوا في إمتاع الجمهور وإسعاده إلى أقصى درجة.
في الختام تستحق مسرحية زقاق المدق للمخرج الكبير عادل عبده والمؤلف الرائع محمد الصواف سلسلة من المقالات، لأن هذا المقال لم يعبر عن مقدار السعادة والمتعة التي غمرتني وأنا أشاهد هذا العمل الرائع.