“عبدالحليم قنديل” يكتب: مصير المقاومة الفلسطينية ..
ahmed ibrahim
عبد الحليم قنديل
حتى لو انتهت مفاوضات المرحلة الأولى من “خطة ترامب” إلى نتائج منظورة ، وجرى تبادل الأسرى والانسحاب “الإسرائيلى” الجزئى الأول من “غزة” وإدخال المساعدات مع وقف إطلاق النار ، فإن أحدا عاقلا لا يتصور ، أن تكون قصة الحرب التى بدأت فى السابع من أكتوبر 2023 قد انتهت ، حتى لو جرى الدخول المشكوك فيه إلى ترتيبات المراحل التالية ، ووضع “غزة” عنوة تحت الوصاية والانتداب الأجنبى ، فكل ذلك عمل مضاد للطبيعة الأصلية للقضية الفلسطينية كصراع طويل المدى ، جوهره التحرر الوطنى الفلسطينى من ربقة استعمار استيطانى إحلالى إفنائى ، لا يقبل التحايل على حقيقته بإجراءات تبدو إنسانية فى ظاهرها ، وتصور الوضع الفلسطينى كحظ عاثر ومأساة إنسانية ، تزول بتطبيب جراح أهل ربع مليون شهيد وجريح ومفقود فلسطينى فى جولة الحرب الأخيرة ، أو بإعادة بناء غزة المدمرة حجرا وبشرا على نحو شبه كامل ، ولا بتخفيف تعب الموجوعين مقابل نزع “فلسطينية” فلسطين ، ذلك أن “غزة” الصغيرة هى فلسطين كلها مكثفة مبلورة ، وهكذا كانت “غزة” دائما فى التاريخ الفلسطينى المعاصر والحاضر ، وهكذا ستكون فى المستقبل بآلامه وأشواكه وأشواقه .
ولا نظن أن الأحاديث ـ ربما الثرثرات ـ قد تنتهى قريبا عن ما جرى ويجرى منذ عملية “حماس” وأخواتها صباح السابع من أكتوبر قبل عامين ، سبقهما ميراث 75 سنة مثقلة بالدم والدموع والمجازر والتهجير ، يريد البعض حجبها عن الوعى والقلوب والأبصار ، ويحصر القصة الفلسطينية فى عملية “الكوماندوز” ، واختراق طلائع “غزة” لقلب كيان الاحتلال فى مفاجأة مذهلة ، ثم الرد عليها بحرب الإبادة الأمريكية “الإسرائيلية” بدعوى الانتقام ، بينما لم تكن القصة كذلك ، فحروب الإبادة طبع جوهرى تكوينى فى كيان الاحتلال ، ولا يتسع المقام لسرد قصص مئات المجازر منذ “دير ياسين” إلى محرقة “غزة” ، و150 ألفا من الفلسطينيين استشهدوا قبل السابع من أكتوبر ، ومليون فلسطينى طردوا فى نكبة 1948 تناسلوا إلى نحو ثمانية ملايين لاجئ اليوم ، ومليون فلسطينى جرى أسرهم “إسرائيليا” منذ حرب 1967 ، ولم تكن العدوانية “الإسرائيلية” الهمجية الإبادية وليدة صباح السابع من أكتوبر ، سواء فى “غزة” التى شنت عليها أربعة حروب تدمير قبل الحرب الأخيرة المتصلة ، ولا فى الضفة والقدس المحتلة منذ يونيو 1967 ، وقد توحش فيها الاستيطان وتهويد الأرض بالجملة بعد “أوسلو” وتوابعها ، وحتى قارب عدد المستوطنين فيها رقم المليون مستعمر ، كان ذلك من أحلام الإرهابى “الليكودى” “إسحاق شامير” رئيس وزراء الكيان وقت مفاوضات “مدريد” أوائل تسعينيات القرن الماضى ، وأعاد مجرم الحرب “بنيامين نتنياهو” تجديد حلم شامير فى كتابه (مكان تحت الشمس) الصادر لأول مرة عام 1993 ، وحتى قبل السابع من أكتوبر 2023 بأسابيع ، كان “نتنياهو” فى الاجتماع السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة ، الذى يعقد عادة فى شهر سبتمبر ، يرفع خريطة أمام مستمعيه تخلو بالكامل من “فلسطين” ، وتضم “غزة” والضفة والقدس ـ طبعا ـ إلى كيان الاحتلال على نحو نهائى جازم .
لم تكن إسرائيل إذن ، ولا راعيتها أمريكا المندمجة معها استراتيجيا ، لم تكونا فى حاجة إلى ذريعة لشن حرب الإبادة ، وإن تظاهرتا بذلك ، وعلى نحو ما تردده حتى أصوات ناعقة باللغة العربية ، كثير منها مريب ويعمل بوضوح ومباشرة فى خدمة الدعاية الأمريكية “الإسرائيلية” نازية المضامين ، المفزوعة من بقاء الشعب الفلسطينى على أرضه وتكاثره فوقها ، وزيادة أعداد الفلسطينيين الراسخين فوق أرضهم المقدسة ، وتخطيها لأعداد اليهود المجلوبين لاستيطان فلسطين ، وكان ذلك هاجسا مرعبا لصناع المشروع الصهيونى ورعاته وأهله ، حذر منه علماء السكان “الإسرائيليون” مبكرا ، واعتبروه بمثابة “حروب غرف النوم” الأخطر فى مضاعفاتها من حروب النار والدمار ، وتضاعفت الهواجس “الإسرائيلية” فى الثلاثين سنة الأخيرة ، وكانت وراء الصعود المتصل المتضخم فى تيارات اليمين الصهيونى ، وتصاعد حضور حركات أكثر عنصرية وتطرفا على يمين “حزب الليكود” ، بينها ورثة حركة “كاخ” وزعيمها الحاخام “مئير كاهانا” المقتول على يد المصرى “سيد نصير” فى “نيويورك” أواخر 1990 ، ثم تناسلت “كاخ” فى أحزاب وحركات مستوطنين أكثر نفوذا ، بينها أحزاب اليمين القومى الدينى بقيادة “إتمار بن غفير” و”بتسلئيل سموتريتش” وغيرهم فى العقدين الماضيين من القرن الجارى ، وإلى أن وصلوا إلى سدة الحكم مع “نتنياهو” ، وكان جوهر الاتفاق بينهم صريحا ، منطوقه السعى إلى حل نهائى لحضور الفلسطينيين المتزايد ، إما بتدمير حياتهم ، أو بالطرد والتهجير ، أو بالإبادة الجسدية ما أمكن ، وعلى نحو ماجرى فى “غزة” خلال السنتين الأخيرتين ، وهو ما يعنى ببساطة صادمة، أن حرب الإبادة عقب هجوم السابع من أكتوبر 2023 كان لابد أن تحدث ، فلم تعد من إمكانية لحلول وسط ، ولا لتسويات موقوتة دمرتها “إسرائيل” عن عمد ، فقد كانت أقدار الصراع تمضى إلى مداها الدموى ، وهو ما يعنى أيضا ، أنه قد لا تصح محاكمة “حماس” وأخواتها على هجوم السابع من أكتوبر ، ولا على صحة أو خطأ القرار وحساباته ، فقد كنا ولا نزال بصدد أقدار لا يمكن تجنبها ، بقدر ما تجب مقاومة مضاعفاتها الأسوأ .
المعنى إذن ، أن هجوم السابع من أكتوبر كان عملا دفاعيا ، حتى وإن اتخذ صورة الهجوم ، الذى استبق إبادة كانت وشيكة فى مطلق الأحوال ، وفى مواجهة الأقدار اللعينة ، كانت جماعات المقاومة الفلسطينية حاضرة مستبسلة بما تستطيع ، فى ظل حصار خانق ممتد ضدها ، منع أن تصل إليها طلقة رصاص ولا شربة ماء عبر عامين ، وبديهى أنه لم تكن هناك من شبهة تكافؤ فى السلاح ، وكان بوسع العدو الأمريكى “الإسرائيلى” أن يجتاح “غزة” فى ساعات ، لكن جماعات المقاومة بأنفاقها وعقيدة قتالها وبورش تصنيع السلاح الذاتى ، استطاعت تقديم نماذج ملهمة من عمليات الفداء الأسطورى ، توازت مع صمود الشعب الفلسطينى لهول العذاب الأسطورى ، وبدا “سر غزة” ساطعا فى المقاومة وفى احتمال العذاب معا ، فأهل “غزة” فى أغلبهم ممن جربوا النكبات كلها ، وكانت “غزة” مهدا أولا لحركات المقاومة من “فتح” وأخواتها إلى “حماس” وأخواتها ، وكان مزيج المقاومة والعذاب الفريد ، هو الذى صنع أسطورة “غزة” عالميا ، فقد قتلت المقاومة وجرحت نحو عشرة آلاف من ضباط وجنود العدو ، ودمرت مئات من مركباته ودباباته ، فوق تزايد معدلات الهجرة العكسية ليهود كيان الاحتلال ، التى تجاوزت رقم النصف مليون بتقديرات المؤرخ “الإسرائيلى” الهارب إلى لندن “إيلان بابيه” ، إضافة لكلفة حرب الإبادة التى فاقت 100 مليار دولار، ثم كان جرح “غزة” وشلالات دمائها وأشلاء أطفالها ، هو الذى حطم صورة “إسرائيل” فى بيت العائلة الغربى ، وكاد ينسف الرواية “الإسرائيلية” من جذورها ، وفى عواصم الغرب التى كانت مهدا وأما للحركة الصهيونية ، وصارت أسطورة “غزة” تلهم وتحفز قلوب وضمائر ملايين المتظاهرين يوميا فى عواصم أوروبا الكبرى ، وحتى عند الأجيال الشابة فى أمريكا ذاتها ، وصرنا أمام انتفاضة عالمية كبرى غير مسبوقة فى كثافتها وامتدادها ، حملت إسم “غزة” و”حرية فلسطين” إلى قلوب وضمائر العالم ، مع نبذ “إسرائيل” وعزل أمريكا دوليا .
وجاءت “خطة ترامب” كمحاولة لعكس الاتجاه العالمى ، والتستر وراء شعار السلام بهدف تحقيق حرب الإبادة لأهدافها بوسائل السياسة ، فما عجزت عنه الحرب ، يسعى “ترامب” لتحقيقه من وراء لافتة إنهاء الحرب ، ولا تزال الخطة الخادعة الجديدة توالى مراوغاتها ، وبالهدف المعلوم ذاته ، أى إرغام الفلسطينيين على الخروج بدعوى الهجرة “الطوعية” ، ومصادرة نور “غزة” بفرض حكم أجنبى عليها ، وتبديل الطبيعة الوطنية التحررية لقضية “غزة” وفلسطين ، وتحويلها إلى مقاولات ومزايدات ومناقصات عقارية ، وسلب مزايا “غزة” وثرواتها الغازية والبترولية البحرية ، واحتجازها مؤقتا فى جيب أمريكا قبل أن تنقل إلى “إسرائيل” ، مع تكفير “غزة” بسيرتها الكفاحية ، ونزع سلاح المقاومة ونفى قادتها ، وقد تنجح محاولات التبديل والنزع إلى حين ، لكنها ستواجه فى النهاية نار الحقائق الكبرى ، ففصائل المقاومة ، حتى وإن نزعوا سلاحها ، قد تختفى عن الأنظار صوريا ، وتولد محلها فصائل مقاومة جديدة ومن نوع مختلف ، فلن يتوقف العدوان “الإسرائيلى” أبدا ، ولا الحرب ستنتهى إلى مشهد ختام مستقر ، وما دام الاحتلال مستمرا حتى لو جرى تمويهه ، فسوف تنهض “غزة” إلى قيامة جديدة ، وإلى أن تعود النجوم إلى مداراتها الأصلية ، فقد تكون “غزة” شاطئا جميلا مغريا بزرقة البحر وكنوزه ، لكن “سر غزة” كامن من وراء صورتها الخارجية ، وسيرة عذابها وثيقة الصلة بسر مقاومتها التى لا تهزم ، ولم تحسم الحرب أبدا ضد “غزة” وضد الفلسطينيين ، ولا تزال فى القصة فصول مقبلة ، فانتظروا “غزة” التى تنهض من رمادها . Kandel2002@hotmail.com