مقالات وأراء

“زكريا ابراهيم” يكتب: كانط والمنهج النقدي

– هل كان كانط رجل الإرهاب الفكري ؟!  

  تعد الثورة الكوبرنيقية التي أراد كانط أن يحدثها في عالم الفلسفة، هي أولاً وقبل كل شئ ثورة منهجية.

فنحن نعرف كيف قصد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط من وراء النقد إلى وضع منهج علمي مختلف يكون بمثابة المخرج الوحيد للفلسفة من المأزق الذي وضعها فيه الفلاسفة الدوجماطيقيون من ناحية ، والارتيابيون أو الشكاكون من ناحية أخرى.

فكانط لم يهدف من وراء فلسفته النقدية إلى وضع مذهب ميتافيزيقي جديد يُضاف إلى قائمة المذاهب الميتافيزيقية المعروفة ، بل أراد تخليص الميتافيزيقيين من كل الخلافات المذهبية حول المادية والروحية ، والجبر والحرية ، الإلحاد والتأليه ، الواقعية والمثالية ، الشكية والاعتقادية ، الآلية والغائية ، الخ.

وكانط صاحب الفلسفة النقدية يؤمن بنزعة عقلية، إلا أن نزعته العقلية اتسمت بطابع خاص جعل الفلسفة كلها عملية نقد ذاتي يقوم فيها العقل بالتعرّف على مداه و حدوده وقدراته ومضمونه.

فليس في نظر كانط حكمٌ آخر يمكنه أن الحكم على العقل، اللهم إلا العقل نفسه. ومادام من المستحيل أن تقوم فلسفة ضد العقل، فلا مناص من استخدام العقل نفسه للحكم على العقل.

وليس النقد سوى هذه المحكمة الباطنية التي أراد كانط للعقل أن يمثُل أمامها، لكي يحكم على نفسه بنفسه.

وهكذا اتخذ كانط من النقد منهجاً علمياً جديداً، وضعه في مقابل الميتافيزيقا الكلاسيكية المدرسية ، وقال أن الفارق بينه وبين هذه الميتافيزيقا القديمة كالفارق بين الكيمياء والسيمياء، أو كالفارق بين علم الفلك والتنجيم. 

  ولكن هل أراد كانط لهذا المنهج النقدي أن يكون مِعولاً هدّاماً يقضي به على البقية الباقية من الميتافيزيقا ؟ بعبارة أخرى : هل نقول مع بعض النُّقاد أن سلاح النقد لم يكن في يد كانط سوى مِدية فتاكة طعن بها شتى النزعات التأليهية التي كانت ماتزال باقية في عصره ؟ 

إننا لا نوافق “هاينرش هاينه” الشاعر الألماني على تسمية كانط بِ “المحطِّم الأعظم” أو “رجل الإرهاب الفكري” ، فإن الفلسفة النقدية في رأينا ليست فلسفة عدمية هدَّامة، كما أن ثورة كانط على الميتافيزيقا التقليدية لا تعني في نظرنا أنه أراد أن يُقوِّض دعائم كل معرفة قائمة على العقل. حقاً إن في النقد مرحلة سلبية لا يمكن إنكارها ، فكانط قد حرص دوماً على تحذيرنا من استعمال العقل النظري استعمالاً غير مشروع ، وذلك بتجاوز حدود التجربة الممكنة. ولكن هناك أيضاً مرحلة إيجابية لا تقل عنها أهمية ، وهي مرحلة الاستعمال العملي للعقل الخالص ، وذلك في دائرة الأخلاق أو اليقين العملي. وقد أراد كانط أن يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله ، فاهتم دائماً بتحديد دائرة العلم ، ودائرة العمل ، وأقام تفرقة واضحة بين مرتبة المعرفة ومرتبة الإيمان. صحيح أن العقل الخالص واحد ، على الرغم من أن له استعمالاً نظرياً وآخر عملياً ، ولكن هناك ثنائية واضحة لا سبيل إلى قهرها ، بين الاستعمال النظري والاستعمال العملي للعقل الخالص. وآية ذلك أن العلم وقف على الظاهرة وحدها ، مادام من المستحيل عليه أن يتخطى حدود التجربة ، في حين أن الاعتقاد أو الإيمان هو وحده الذي ينصب على الشيء في ذاته ، والاعتقاد لا يمدنا بيقين نظري أو بمعرفة حقيقية ، بل هو يمدنا فقط بضرورة عملية أو يقين أخلاقي. ولما كان فيلسوفنا قد آلى على نفسه دائماً ألا يقول أكثر مما يعرف ، فقد بقي العلم عنده حتى النهاية مجرد معرفة بالظاهرة ، بينما بقي الإيمان مجرد اعتقاد عملي يدور حول الشيء في ذاته. حقاً إن العلم والأخلاق هما من وضع عقل واحد في جوهره ، ولكن للعلم قيمة موضوعية ، في حين أن ليس للقانون الأخلاقي سوى مجرد ضرورة ذاتية. 

  وهكذا ظلت الفلسفة النقدية محتفظة حتى النهاية بهذا التعارض الأصلي بين العلم والإيمان ، بين الظاهرة والشيء في ذاته ، بين الطبيعة والحرية. ولكن يظهر أن الحدس الأصلي الذي صدرت عنه كل الفلسفة الكانطية إنما هو هذه الثنائية الجذرية التي لا سبيل إلى تصفيتها ، بين مرحلتين متعاقبتين من مراحل التفكير ، وهما مرحلة المعرفة و مرحلة الاعتقاد. والحق أنه مهما كان من أمر المآخذ العديدة التي وجهها خصوم الفلسفة النقدية إلى كانط ، فإن أحداً لم يستطع أن يتهمه بأنه قد حطَّ من شأن العلم. وإن نظرة واحدة يلقيها المرء على كتاب “نقد العقل الخالص” لهي الكفيلة بأن تُظهر لنا الاحترام الكبير الذي كان يكنّه كانط للمنطق والرياضة والعلم الطبيعي. بيد أن التفرقة الحاسمة التي أقامها بين وظائف العلم من جهة ووظائف الأخلاق من جهة ثانية ، هي التي دفعته للاهتمام بالاستعمالات النوعية الدقيقة لكل من اللغة والعقل في تكوين الأحكام الأخلاقية وتبرير الإيمان الديني. 

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights