سينما ومسرحنجوم و نجمات

’من هنا وهناك’ بقلم د سامح توفيق … الفيلم القصير “سواح”

في السينما: البدايات تقود إلى النهايات...

سامح توفيق

 

آية جمال & منى يحيى

عندما اشاهد فيلم روائي قصير، يتبادر إلى ذهني مجموعة من البديهيات والمسلمات التي تدفعني لمتابعة هذا النوع من السينما الذي افضله ، ما دام يلتزم بتلك البديهيات.

ولكن، ما هي بديهيات الفيلم الروائي القصير؟

  • يجب أن تكون فكرة الفيلم واضحة جلية، لا لبس فيها، وغالبا ما يكتفى بفكرة أساسية، مع الاقتصاد في الحوار قدر الامكان، فأمامنا عدد من الدقائق، يجب أن يستغلها المخرج في عرض فكرته والدفاع عنها بكل ما أوتي من فنون وآليات ومفاهيم، استقرت على مدى عمر السينما التي زادت عن المئة والعشرين عاما، والتي تختلف عن غيرها من الفنون الكثيرة التي سبقتها، التي نهلت منها السينما، دون أن تقف عند أي منها. فالمخرج لديه ما يقصه على المشاهد بفنون السينما وأدواته التي تتسع لتشمل كل الفنون المعروفه، وتتقيد بما يختص به الفن السينمائي، القص بالصورة واختيار أسلوب السرد المناسب لموضوع الفيلم.
  • التكثيف والاختزال: سواء من حيث الزمن، أو الحالة الوجودية للشخصيات.
  • الاختزال والحذف في السرد، والامتناع عن التوغل في التفاصيل، والاستغناء عن منطق السبب الذي يؤدي إلى النتيجة، والاكتفاء بالاشارة إلى الاسباب.
  • مدى تمكن المخرج من إرباك المشاهد، ودفعه للتأمل والانبهار أمام قدرة الفن على خلق وقائع تشبه الواقع، لكنها مستقلة عنه سواء في طريقة حدوثها، أو تسلسلها.
  • المنحى التجريبي الذي يحاور ويجادل المستقر من البناء السينمائي، مع محاولة تكسير قواعده بأسلوب مقبول. ومفاجئة المشاهد بمخالفة المألوف والمتوقع له.
  • والحق أن لدى مخرج الفيلم الروائي القصير حرية كبيرة، لا حد لها، فهو لا يعنيه محددات السوق والتوزيع، وذائقة الجموع الشعبوية. يستطيع المخرج أن ينحي كل تلك الأمور، ويستقل بذائقته وبمفهومه الخاص عن السينما، الذي أوضحنا محدداته.
  • لذا ليس لمخرج الفيلم الروائي القصير عذر في أن يخلص لفن السينما، أو أن يتعذر بالجمهور، أو المنتج، أو تحكم الفنانين في عمله. لذا لم يعد المشاهد يحتمل مشاهدة فيلم روائي قصير مصري، أو عربي، أو أجنبي يعتمد فكرة مكررة دون إبداع، أو إضافة، أو محاولة التجريب، وارباك المشاهد ودعوته للمساهمة في السرد، وإعادة بناء مكونات الفيلم وسبر أبعاده.

يقول عزالدين الوافي، الباحث في جماليات الصورة والسينما “أن الأفلام المتميزة تحاول دائما أن تجرب، وتكسر خطية السرد، وتراتبية الأحداث، ونمطية الأداء، كما تجعل من المشاهد طرفا أساسيا في بناء الحكاية وإعادة تشكيلها وفق إيقاع يصبح الفيلم فيه كمبرر للنشوة الجمالية، والاستمتاع الذهني الذي يرى أن العمل الفني هو في نهاية الأمر نوع من اللعب، غير أن هذا الطرح لا ينزع عن المخرج مسئوليته، ورغبته في التفكير حول قضايا، ومضامين ذات بعد إنساني وكوني”.

في السينما: البدايات تقود إلى النهايات…

استهلت المخرجة/ منى يحيى فيلمها الروائي القصير “سواح” بمشهد لفتاة شابة تشير لسيارة أجرة لنقل الركاب، وتستقلها، دون أن نعرف اتجاه السيارة، يبدو على الفتاة الغضب والحيرة، وتستعرض الكاميرا الطريق، والذي نتبين أنه أوتوستراد المنيب/المعادي، مما يسمح للسيارة بطي الطريق في سرعة، وتؤكد الكاميرا على ملامح الطريق، ويظهر غضب الفتاة في حوار قصير جدا مع سائق السيارة “آنسة من فضلك”، ويرن التليفون الجوال للفتاة، ونتبين أن أمها على الطرف الآخر، وتخطر الفتاة أمها بتركها العمل، بعد أن فقدت الرغبة في استمراها فيه، ونفهم من ردود الفتاة، أن الأم تعاتب وتلومها لتركها العمل، شأن أي أم تفضل أن تتسم أبنتها بكثير من الجلد واحتمال المصاعب التي لا يخلو عمل منها، ويظهر الحزن على ملامح الفتاة، ثم تطلب من أمها انهاء المكالمة.

منى يحيى

نستمع لموسيقى أغنية سواح وغناء عبد الحليم حافظ للأغنية، وتعود الكاميرا لاستعراض الطريق ويتبين المشاهد نفس ملامح الطريق التي سبق أن شاهدها بنفس الترتيب، فيقع المشاهد في حيرة وارتباك، وقد ينتبه البعض أن المشهد الأول هو فلاش فورورد “Flash forward” أو مشهد تأسيسي، لما سيراه المشاهد في المشهد التالي. ولما كان هذا التكنيك، أو آلية “Flash forward” السردية جديدة على المشاهد المصري، فتصدمه ببعض الغموض وعدم الوضوح المحمودين، مما تدفعه للانتباه للمشاهد التالية.

يظهر للمشاهد طريق يحفه من جانب الأشجار والخضرة، ثم تطلب الفتاة من سائق السيارة التوقف، لتغادر السيارة، وهنا تعبر المخرجة عن حالة الفتاة المشوشة، وعدم ثقتها في نفسها، بنسيانها حقيبتها، وتنبيه السائق لها، لتستردها.

آية جمال

حتى هذه النقطة نلاحظ أن المخرجة تعبر عن حالة الفتاة بتقنيات السينما، القطع المتوازي بالمونتاج بين صوت وكلمات أغنية سواح وبين حالتها التي تتجول في الطريق دون تحديد وجهة محددة لها، فهي تسوح غريبة في الطريق. وتعبر عن تشوش الفتاة بنسيان حقيبتها، ثم اختيارها مغادرة السيارة فجأة عندما شاهدت الطريق الذي يحفه الأشجار والخضرة. كما استخدمت المخرجة الفضاء وكادرات وأداء الممثلة لكي تكون موحية للمشاهد الذكي، لقراءة الدلالات من خلال ترابط الأشياء وخلفياتها.

تدخل الفتاة الحديقة وسط الأشجار، وتصور المخرجة الفتاة من الخلف، لتؤكد على المكان وخصوصيته، ودلالته وتأثيره على الفتاة، ثم تستعرض الكاميرا الفتاة ونشاهد تحسن حالتها ويظهر على ملامحها الرضا والهدوء والسكينة والراحة، وهي تتجول وتسوح في الحديقة. لقد شعرت الفتاة بالحرية، والانعتاق من قيود وظيفة سببت لها الحيرة والغضب والألم، وقد عبرت المخرجة عن انعتاق الفتاة التي حلت مشبك شعرها، وتركت له حرية الحركة. فقد شعرت الفتاة بأن اختيارها ترك الوظيفة، هو قرار نابع من خبرتها الشخصية التي اكتسبتها من خلال تجربتها، وأن اختيارها الاستغناء عن الوظيفة، هو الأنسب لها، بغض النظر عن كونه قرار خطأ من وجهة نظر أمها.

ينتهي الفيلم، ولا يعرف المشاهد وجهة الفتاة، فكما ذكرت:

البدايات تقود إلى النهايات…

قدمت المخرجة الوجه السينمائي الجديد “آية جمال” التي شخصت دور الفتاة، واعتقد أن تقديم الوجوه الجديدة للشاشة هو واجب على المخرجين، ودور من أدوار الفيلم الروائي القصير.

آية جمال

ساعدت “آية جمال” في التعبيرعن دلالات الفيلم، خاصة أن دور الفتاة مثقل بالرموز والدلالات، ويتطلب التعبير بوضوح عن حالة التشوش، والحيرة، والارتباك، والغضب، والرضا، والهدوء، والسكينة، والراحة، والحرية، والانعتاق. وقد استطاعت التفرقة بين هذه المشاعرالمختلفة ببراعة. واستطاعت بعد أن استغنت المخرجة عن الحوار في كثير من المشاهد، أن تشرح الموقف في بلاغة، دون أن تسقط في تكرار التعبير. وساعدت المخرجة بالتلميح والصمت، واستخدام الإشارات البصرية، والماكياج، وطريقة تصفيف الشعر في التعبير عن مشاعر الفتاة المتعددة.

آية جمال
فيلم “سواح” نموذج للفيلم الروائي القصير، الذي نطمح في مشاهدته على الشاشة، فالفيلم بسيط يدعوك لتدخل عالمه، ويجدد أسئلتك وعلاقاتك بالإنسان، ويترك بصمة في حياتك.
زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights