مقالات وأراء

“أحمد إبراهيم” يكتب:  “لاشين” .. فيلم ناضج لزمن ساخن ..!!!

"لاشين" بورتريه للقائد العسكري الشعبي بأسلس وأيسر الأدوات ..

  – الفيلم يشير أن هناك دائما كيمياء خاصة بين الجماهير والقائد العسكري الوطني ..

 

– الفيلم شكل و Form سينمائي خالص بعيد عن المباشرة المؤذية فكرياً وجماهيراً .. 

 

– “لاشين” نتاج لتراكم هائل من الحس والانتماء الوطني ..

 

.. للأفلام الكلاسيكية جاذبية وسحر خاص، فأنا أميل لها ميلاً شديداً وأقدرها تقديراً لا نظير له، فهي بدايات الفن السابع الذي ضُربنا به جميعاً وأصبحنا له مهتمين ومحبين أو كأمثالي من العاشقين آسري ومريدين ..

والفيلم المصري “لاشين” الذي عُرض جماهيراً في الـ 8 من يناير 1938 بعد صراع مرير مع الرقابة والقصر الملكي، الذي إعتلى عرشه “الملك فاروق الأول” أصغر وآخر ملوك أسرة محمد علي – حكم مصر في الـ 28 من إبريل 1936 وحتي الـ 26 من يوليو 1952 – والذي أطاحت به وبحكمه ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952 ..

وإن كان التأيد وإلإلتفاف الشعبي والجماهيري حول ثوار يوليو، بعد حكم علوّي استمر لقرن ونصف، أمراً يحتاج إلي التفسير والتوضيح؛ فإن فيلم لاشين أحد بواكير صناعة فن السينما المصرية، يعد مفسراً وموضحاً وحجة تاريخية علي فترة ملكية إنتهت بظهور الضباط الأحرار بزعامة جمال عبد الناصر ورفاقه في الحلم للقضاء علي الاستعمار والحكم الملكي ..

القائد العسكري الشعبي 

ولاشين الفيلم من ناحية التقنية والصناعة، يعد عملاً فنياً وسينمائياً ناضجاً، استثمر كل أدوات الفنون السبعة الراقية الهادفة لتوصيل مراده وأفكاره ..

الفنان حسن عزت
الفنان حسن عزت

فالبطل “لاشين” الممثل “حسن عزت” صاحب الحسنة والبطولة الوحيدة في السينما المصرية، يتمتع بكل مقومات الفتي الوسيم “الجان” كما أنه ذو أداء تمثيلي سينمائي مثقل بكثير من الموهبة والدراسة أيضاً، فلقد قدم شخصية القائد العسكري الودود المحبوب جماهيراً دون ضجيج أو إنفعالات مبالغة، فهو يقنعك عندما يُحب وعندما يقاتل وعندما يتودد للجماهير أو يتحدث للسلطان أو مع أنداده .. إجمالاً هو ممثل مقنع الأداء ذو وجه مريح وصوت رائق جذاب …    

المغول علي الأبواب

فببراعة اختار صناع العمل حدوته تاريخية شيقة، تناسب مرتادي وجماهير الشاشة السينمائية في هذا الوقت، بسيناريو كتبه أحمد بدرخان وبمشاركة الشاعر الغنائي الكبير أحمد رامي .. ليقدما تتابعاً وسرداً سينمائي بليغ لقصة يتصدرها ويحرك أحداثها قائد الجيوش “لاشين” الذي تصادف وجوده الزماني والتاريخي مع أحداث سياسية واقتصادية ساخنة؛ من مجاعة لإضطرابات جماهيرية لأطماع داخلية وخارجية علي مصر، فرئيس الوزراء الفاسد “كنجر” يتلاعب بالبلاد داخلياً ويحتكر العمل السياسي ويتاجر بقوت الفقراء، وأعوانه من جواسيس المغول أثارو الشغب والشعب ضد السلطان الفنان “حسين رياض” وأيضاً ضد “لاشين” القائد العسكري ذو الصفات العسكرية والإنسانية النادرة النبيلة، والشوكة في حلق الفاسدين، وعائقاً يهدد أطماع الغازي المغولي المنتظر علي الأبواب ..   

القائد لاشين بمقدمة الجيش
القائد لاشين بمقدمة الجيش

 .. ويفلح عمل المفسدين وخطتهم، وتحدث الوقيعة بين السلطان وقائد جيوشه فيسجنه، لتثور الجماهير ضد “كنجر” الفاسد وتتدخل غاضبة مضطربة طالبة بعودة القائد المحبوب لاشين، الذي يقتل الوزير الخائن ويعود إلي الجيش والحياة العامة من جديد، فيرضخ السلطان لحراك الجماهير ومطالبهم ..!!!

.. ويبدوا أن فيلم “لاشين” يشير إلي أن هناك دائما كيمياء خاصة جداً بين الجماهير والقائد العسكري الوطني .. 

كل هذا بالطبع مع بعض اللمسات والبهارات السينمائية، كتمنع الجارية “كليمة” الفنانة “نادية ناجي” علي السلطان حباً في القائد لاشين، إضافة لبعض الاستعراضات والقتال والمعارك الحربية ..

المخرج فريتز كرامب
المخرج فريتز كرامب

فريتز كرامب

وحقيقة الأداء التمثيلي لفريق الفيلم مميز يتناسب تماماً والحالة الفكرية والوجدانية التي تدور حولها الدراما وتتحرك داخلها شخصيات العمل، فهو أداء مقتصد غير مسرحي كأغلب أشكال التمثيل بأفلام بدايات السينما المصرية، كما أن هناك مقدرة واضحة علي التعبير الإنفعالي الجيد سواء من خلال الأداء الصوتي الملون البعيد عن الرتابة، أو من خلال تعبيرات الوجه المتغيرة المنضبطة السليمة ..

وإلي جانب التمثيل يأتي دور السيناريو بحواره المقتضب المنغم الرصين، ذو الإنتقالات السلسلة المقنعة بين مشاهد أحداثه وشخوص حكاياته .. 

وأيضاً الديكور الموحي المناسب للحقبة التاريخية بالقرن الثاني عشر الميلادي حيث توغل وانتشار حروب المغول ورغبتهم في السيطرة علي مصر، والذي صممه الألماني روبرت شارفنبرج، مصمم الديكور لـ 73 فيلماً مصرياً ..

إضافة للموسيقي التصويرية التي تنطلق ساخنة عارمة في مشاهد الحروب والقتال وتعود هادئة ناعمة في المشاهد الشاعرية التي تجمع بين الجارية كليمة والقائد لاشين ..

كل هذا بالتأكيد يرجع لوجود مخرج واعٍ موهوب هو الألماني فريتز كرامب الذي قدم تكوينات بشرية تتحرك بسلاسة وبشكل متقن رشيق داخل الكادر، إضافة لسيطرته الكاملة وتمكنه في تنفيذ المعارك الحربية، إلي جانب رقته في تنفيذ المشاهد واللقطات الشاعرية والعاطفية بين البطل والبطلة..

طلعت بيك حرب
طلعت بيك حرب

صناعة وطنية

 والذي استعان به أبو الاقتصاد المصري طلعت حرب لتأسيس سينما مصرية وطنية – لتصبح ثاني مورد للعملة الصعبة بعد القطن المصري آن ذاك – فقبل لاشين أخرج الألماني كرامب الفيلم الغنائي وداد لكوكب الشرق أم كلثوم عام 1936 بتوجيه وأمر مباشر من طلعت بيك حرب الصديق الشخصي لكوكب الشرق أم كلثوم .. باكورة أفلام شركة مصر للسينما والتمثيل، التي تأسست عام 1925 ..

  والغريب أن إسم الشركة تضمن مهنة التمثيل وكأنها بضاعة تباع وتحقق ربحاً، وهي حقيقة فالنجوم هي سر نجاح أي عمل فني، وصناعة النجم صناعة ثقيلة، تستلزم تضافر الكثير من المواهب والطاقات مع كثير من الجهد والطاقة للخروج بفنان يصبح نجماً يلقي القبول والنجاح الجماهيري، وهذا ما حققه طلعت بيك حرب برعايته للكثير من المواهب في كافة فرع صناعة الفن السينما كنيازي مصطفي المونتير والمخرج فيما بعد، ومهندس الديكور ولي الدين سامح وكثر غيرهم ..   

جماهير ثورة 1919
جماهير ثورة 1919

  1919

وكل هذا الجهد والدأب للوصول وتحقيق حالة من النجاح، لا يمكن أن يكون وليد الصدفة، وإنما نتاج لتراكم هائل من الحس والإنتماء الوطني، الذي بدأ مع ثورة 1919 وما واكبها من ظهور أعلام التنوير والفكر المستنير كالإمام محمد عبده والأفغاني وقاسم أمين وما تلاهم من أقطاب الفكر الإصلاحي كطه حسين والعقاد ..    

وما طالب به كل هؤلاء المفكرين من حكم وطني خالص بعيداً عن الاستعمار، ثم بعد ذلك بعيداَ عن الحكم الملكي ذاته، والاستقلال التام وأن تكون مصر في حد ذاتها قوة ذاتية مستقلة دون تباعية أو حماية من أحد، بما تنعم به من خيرات وموارد ثقافية وتاريخية حضارية ..

القائد العسكري الشعبي

.. ويبدو أن هذا المد الفكري الليبرالي المستنير كان الإرهاصات والبدايات الأولي للبحث عن مخلص وقائد عسكري وطني من أبناء جلدة هذا الوطن، يفض أطماع الطامعين وينهي أحقاد الحاقدين، وهو ما سعي ونادي به فيلم “لاشين” بهدؤ ودون ضجيج وبشكل و Form سينمائي خالص بعيد عن المباشرة المؤذية فكرياً وجماهيراً والتي كثيراً ما تؤتي عكس أهدافها ..

إن عقلية صناعة فيلم لاشين هي نموذج للعقلية المستنيرة المحترفة، التي تتحرك من منطلق حس وإنتماء وطني عمليً مدروس فعال بعيد عن الصياح والأداء الحنجوي الأهوج ..

كما انها تجسيداً للمعني الحقيقي للمنتج والفنان المسئول المدرك لتحديات زمانه ومعوقاته، ليتجاوزها ويتغلب عليها بصناعة عمل فني ناضج في زمن ملتهب ساخن ..  

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights