فن و ابداعمقالات وأراء

أحمد أبو صالح يكتب: “مُلك” في ” ملك ليس يفني “

 

غلاف ديوان “ملك ليس يفني “

حقيقة لم أجد كلمة أعبر بها عن مضمون مقالي سوي ” مُلك ” المأخوذة من نفس إسم القصيدة المحورية وديوان الشاعر والأديب والإعلامي السيد حسن ؛ فإحقاقاً للحق إن ديوان “ملك ليس يفني” هو مُلكٌ حقيقي ؛ فهو إسماً وواقعاً لعمل أدبيّ إبداعيّ تتوافر فيه كافة عوامل الإكتمال الفني الشعري ، سواء من ناحية إختيار الكلمات ذات الظل الدلالي الملائم للمضمون والحالة النفسية الشعورية لكل قصيدة ، أو من ناحية الصور الشعرية المتقنة النسيج والصياغة أو من ناحية الموسيقي النابعة من تواتر آبيات قصائده واحداً تلو الآخر مكونا إيقاعاً جمالياً منتظماً بلا تراتب أو تكرار .  

وبعيدا عن الشعر وتقعراته ؛ فإن الإنسان ” السيد حسن ” هو رجل يتمتع بجاذبية خاصة ؛ كون جاذبيته وكارزميته هذه بخصوصية فريدة فهو مثقف موسعي عظيم الإطلاع كما أنه فيضي المعرفة لا يبخل بما يملك من علم ومهارة إبداعية علي أحدٍ من حواريه ، كما أنه شخصا دمث الخلق يتمتع بروح عزبة تفيض شعراً ولطفاً وأنساً ..

لذا فإن محاولة التعرض لأي من إبداعات الشاعر والمثقف “السيد حسن ” هي مهمة شاقة جداً ، فلا شك إنك ستقعُ أسيراً لأحد من جوانبه المشرقة ؛ مهما كان تملكك لأدواتك النقدية وقدرتك علي الإلتزام بالموضوعية والحيادية …

تأملات شعرية

    كما أنه شاعرا ذو فلسفة شعرية خاصة يفوح عبيرها من بين كل قصيدة من قصائد ديوانه ، فبالرغم من إتقانه لأدوات صناعة الشعر إلا أنه لازال مشغولا بماهية الشعر والشاعر وهذا ما بدا واضحا في قصيدة المحورية التي تحمل إسم الديوان ” ملك ليس يفني ” فهو يحاورنا ويشاكسنا ويحاور أيضا نفسه ويشاكسها كي يحقق فلسفته الخاصة التي لا زيف بها ، ويصل بتأملاته هذه إلي قناعته اليقينة التي لن يحيد عنها ؛ قائلا في نهاية قصيدة ودرة ديوانه ..

سألت الله ملكا ليس يفني .. فكان الشعر

مملكتي ، ومعجزتي ، ومأساتي …

لم تهدأ قريحة الشاعر السيد حسن عند هذه المنطقة بل تمددت تآملاته وإستغرقاته الفلسفية حتي وصلت إلي ماهية الفصحي وما علاقتها بالشعر وهذا ما بدا في قصيدة “الفصحي تتنفس شعرا” والتي شدي فيها قائلا ..

وأقمت في روض الخلود صلاتي ودعواتي

ربي أن يضئ لهاتي ..

أطلقت أسراب اليمام قصائدي

شدو اليمام يصاغ من أبياتي

يالها من أبيات مؤثرة تنبأ عن شاعراً وصل لذروة الثقة بالنفس وبأدواته الشعرية وأهمها المخيلة و الإبداع البكر الخصب ؛ والذي يعود ويشدونا مغازلا الفصحي قائلا ..

وهي الوجود المحض في جناتها

وطن تشكل رائق القسمات

 تاريخنا، وغناؤنا ، سيماؤنا

 وهي إنبثاق النور في الصلوات

حقيقة لم أكن أدرك قبل هذه الأبيات مدي تداخل الفصحي وإمتزاجها بذواتنا بل لم ألحظ هذه الحالة من التعلق والعشق بلغة الضاد علي شاعراٍ من قبل أن تري عيني هذه الأبيات ..

يا أم حرف الضاد ،

إني عاشق إني المريد وأنت قطب حياتي  …

إنتماء

.. كما أن الشاعر السيد حسن ليس مشغولا فقط بماهية الشعر وكينونته ، ولكنه أيضاً مشغولا بالهوية ومن تكون ويطرح أسئلة فلسفية عميقة يجسد بها فسيفساء الوطن وينسج بريشة عزبة ملامح روحه الإنسانية والطبوجرافية فهو بمطلع قصيدته “هوية ” يطرح سؤلاً فلسفياً وجودياً ؛ متسائلا ..

إلي من تنتمي ناري ومائي    وفًلاح تخفي في ردائي

ورنةُ ضحكتي ، وحنين روحي وفنجانان من بُن بعيني

وسمرة بشرتي ، وهواء صوتي  ..

تم يعود ليطرح نفس التساؤل الفلسفي المُفتحي مستخدماً نفس التيمة الشعرية المحورية في مقطع آخر بقصيدته قائلا ..

إلي من تنتمي ناري ومائي   إلي طمي وصحرائي وملحي

وأمكنة تشكل لون بوحي     وأزمنة تصوغ فسيفسائي

 إن الشاعر السيد حسن بهاتين القصيدين السابقتين يعبر عما يشغل أعماقه وما يدور بها من أسئلة مهمة تتعلق بالهوية سواء أكانت هوية الإنسان الوطني أو المبدع الشعري .

 كما أنه أيضا مشغول بالتماسك الإنساني وهذا ما بدا واضحا بقصيدة “شموخ” والتي جاء في مطلعها ..

لك في شموخك مستراح

يؤويك من هوج الرياح

ينجيك من عصف الحناجر

والخناجر والمشاعر والرماح

ويقيك إعصار الأباطيل الأنيقة

والخيانات الصديقة

والأكاذيب الصراخ

ليعود محرضا بنهاية قصيدته شموخ قائلا ..

ها أنت ترتجل البداية فإرتجل زمنا شبيهك

ليس يرضي أن يعاد وما له أن يستباح

الحس الفلسفي

أما في قصيدة “الظلال ” فإننا سنكتشف حساً فلسفيا ممزوجا بحنين طفولي للأم واللأب ، والتي نسج فيها صورة الأم بأروع ما قيل فيها شعرا حين قال …

يا ظل عين الأم في عين السَحر

سجادة بسطت ودمع في المآقي ينهمر

والروح طير قد تصاعد للسما

يستلطف الله الخبير بما يخبئه القدر

والقلب ينتظر الجلال نناله وينالنا

ثم يعود الشاعر من جديد ليُشاغلنا بصوره الشعرية الفريدة وهو يقول في الأب ..

ظل الأبوة

إذا تلامسه السما مطر سماوي الجلال

علي روحي همي مسحت علي قلبي يداه

فصار حرا ملهما

ظل الأبوة

لا سماء تحده

ويد الأبوة في الحياة

يميننا وشمالنا

ثم ينهي شاعرنا قصيدته بتألق شعري يعبر عن قلب كبير المشاعر تتربع علي قمته عاطفة ومشاعر الطفولة الصافية البريئة إذ يقول ..

إن الطفولة في الجوانح سرنا وجمالنا ..

تفاصيل

.. يمتلأ ديوان ” ملك ليس يفني” بتفاصيل وجدية فلسفية فبالإبحار الحر في قصائد الديوان سنجد أن هناك زخماً وثرائاً فنياً ووجدانياً وفلسفياً ، مثلما يوجد بقصيدة ” حال البحر ” والتي بدأها أيضا بشطرة “ماذا قال البحر” والتي تعد سؤالاً فلسفياً محورياً وأيضا تنويعة شعرية مِفتحية يَضرب عليها من حين لآخر ليكشف لنا عالمه الشعربي ؛ وهذا أيضا ما قام به في قصيدة “حال من الوجد” وهي أيضا قصيدة فلسفية وجدية ولكن هذه المرة دون شطرة شعرية مِفتاحية .

لينتقل بنا الشاعر لتفصيلة أخري ومشغوليات وجدية جديدة في عالمه الشعري والتي تظهر بقصائد “قبة الجامعة” و “استشهدوا النيل” و”الركن المنسي ” و” الكمان” وهي مجموعة تعبر عن حالة من الشجن والحنين لماضي ولي كان جميلا كان متوهجاً .

حالات

ثم يأتي المقطع الأخير من ديوان “ملك ليس يفني” وهو بإسم “حالات” وهو تنويعة شعرية تتراوح ما بين الشجن و الحميمية والصوفية .

رحيق الأدب والثقافة

حقيقة لقد إختفت من عالمنا الشعري شخصية الشاعر المثقف الموسوعي صاحب الثقافات المتعددة والأفكار الولادة المتجددة ، ولا شك أن للمثقف الموسوعي أهمية كبري في غرس أرض الفكر والثقافة ببذور التجدد والإستنارة ، وصراحة إن من يلتقي برجل موسوعي لهو رجل محظوظ ، ولقد كان من حسن حظي أن ألتقي بالشاعر والإعلامي والكاتب والمحاضر “السيد حسن ” وهو رجل يتمتع بغذارة الثقافة وحداثة وتمدد الفكر لأفاق رحبة من التفتح والتجدد والإستنارة ولم لا وهو مالك لزمام الكلمة ممسك بقضايا محورية قادرا علي التعبير عنها بسلاسة ورقة وشياكة وأيضا بهدوء الواثق المتمكن الفاهم لمجريات الأمور ؛ كما أنه شاعر مشاغب صادق ، يقدم أحاجيه وآلاعيبه الإبداعية صامتا هامسا وعلي المتلقي أن يعي ويستوعب ويتأمل  .

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights