دين ودنيا

البابا تواضروس الثاني يكتب: قوة محبة المسيح

نحتفل هذا العام بعيد قيامة السيد المسيح، فى وسط عالم ملىء بالحروب والصراعات، عالم يبحث عن مصالحه الشخصية، ولا يبحث عن الآخر، عالم فرغ قلبه من الحب ويتباهى بالقوة.

«القوة» من الكلمات المبهرة فى الحياة الإنسانية، وهى كلمة واسعة المعانى وعديدة الأبعاد والمجالات.. فهناك قوة العلم والمعرفة والمعلومات.. وهناك قوة المال والثروة والكنوز.. وهناك قوة البدن والصحة والعضلات.. وهناك قوة الفكر والأدب والفلسفات.. وهناك قوة النسك والزهد والتقشف.. وهناك قوة السيطرة والاستحواذ والتحكم.. وغير ذلك كثير ونوعيات.. ربما يصعب حصرها..

وذات يوم تساءلت:

ما هى أعظم قوة فى حياة الفرد؟!

أو حياة المجتمع؟!

أو حياة الشعوب؟!

وشغلنى السؤال وأنا أقرأ فى كتب التاريخ وقصص الزمان، ووجدت أن كل أنواع «القوة» تظهر على مسرح الزمان وتستمر وقتاً ثم تنتهى. وهكذا كانت الممالك والإمبراطوريات الكبيرة والجيوش العتيدة.. وهكذا كان الملوك والأباطرة والطغاة، ومن كان دكتاتوراً فى زمنه وانقضى ومن كان متميزاً ومشهوراً فى جيله وانتهى.. ومن صار علامة فى حياة البشر إيجاباً أو سلباً.. حتى إن سليمان الحكيم يقول فى سفر الجامعة: «بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ.. مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِى يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟» (1: 2، 3).

ويظل التساؤل: ما هى أعظم قوة فى حياة الإنسان؟ وما هى هذه القوة التى تحمى الإنسان من السقوط فى الخطأ؟!

إنها قوة المحبة التى يسكبها الله على الإنسان فى صورة الغفران من الخطايا والذنوب، ويأخذها الإنسان ليقدمها إلى أخيه الإنسان فى صورة التسامح، والمسامحة، أمام الإساءات والتعديات الكثيرة.

وقبيل صعود السيد المسيح إلى السماء بعد قيامته ظل أربعين يوماً يظهر لتلاميذه قائلاً: «هكَذَا كَانَ يَنْبَغِى أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ..». (لو 24: 46، 47).

أمام الخطايا يظهر إله الغفران المحب: «إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِىءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ وَلكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً» حتى إن موسى النبى يصلى ويقول: «إِنَّهُ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةُ وَاغْفِرْ إِثْمَنَا وَخَطِيَّتَنَا وَاتَّخِذْنَا مُلْكاً» (خروج 34: 6-9).

إن الإنسان يعيش فى عالم ملىء بالجروح والمشاعر السلبية والإساءات التى تصيبه من الآخرين، وتكون النتيجة هى إصابته بمشاعر المرارة والغضب والقلق والخوف والظلم والاكتئاب والانتقام وكل هذه الجروح والمواقف تسبب له حالة إحباط نفسى يختلف من وقت لآخر.

وهذا يؤثر على جسده ونفسه وروحه وبالتالى على سلوكياته وتصرفاته سواء فى البيت أو الكنيسة أو المجتمع وتنشأ عنده حالات الكراهية واليأس والانطواء وغياب الفرح مع أعراض أخرى مدمرة قاسية.. ولا يجدى مع ذلك النسيان أو الإنكار أو الابتعاد.. ويقف الإنسان حائراً ماذا يفعل؟!

والإجابة هى بتقديم المحبة للكل ومسامحة الكل. إن قوة المحبة من خلال التسامح هى المنقذ الوحيد للخروج من هذه المشاعر السلبية، التى شعرت فيها النفس بالإيذاء العميق.

ومعروف أن الشريعة فى العهد القديم لا تقتصر على وضع حد للانتقام «عَيْناً بِعَيْنٍ» (خروج 21: 23) ولكنها أيضاً تنهى عن بغض الأخ لأخيه، كما تحرم الانتقام والحقد نحو القريب (لاويين 19: 17-18).

وقد تأمل ابن سيراخ الحكيم فى هذه التشريعات واكتشف الرابطة التى تربط بين غفران الإنسان لأخيه وبين الغفران الذى يلتمسه الإنسان من الله: «.. اِغْفِرْ لِقَرِيبِكَ ظُلْمَهُ لَكَ فَإِذَا تَضَرَّعْتَ تُمْحَى خَطَايَاكَ..» (سيراخ 28: 2).

والقاعدة واضحة جداً أمام الإنسان؛ أن الله لا يمكن أن يغفر لمن لا يغفر لأخيه.

ومن أهمية ذلك أن السيد المسيح وضع هذه القاعدة فى الصلاة الربانية التى نرددها كل يوم حتى لا ننساها.. إن مسامحة أخيك شرط طلب الغفران الإلهى (لوقا 11: 4؛ متى 18: 23).

ولذا نجد السيد المسيح يفرض على بطرس الرسول ألا يمل من الغفران (متى 18)، ونقرأ أن استفانوس الشماس الأول مات وهو يغفر لراجميه (أعمال 7: 10) لأن الذى «يحب» عليه أن يعى أن هناك فعلين يعملهما: أن يسامح وأن ينسى أية إساءة.

إن الإنسان المسيحى يجب أن يغفر دائماً ويغفر بدافع المحبة أسوة بالمسيح (كولوسى 3: 13) ولا يقاوم الشر إلا بالخير (رومية 12: 21). إن السيد المسيح لم يدعُ الخطاة إلى التوبة والإيمان فقط، بل أعلن أنه لم يأتِ إلا ليشفى ويغفر.

وهو ما ظهر جلياً وقت الصلب وهو أصعب لحظات حياة السيد المسيح على الأرض، فقد قدم لنا قوة محبته التى جاء ليظهرها لكل الإنسانية، تجلت من خلال غفرانه للكل، لقد ظهرت فى الجسد واهناً ضعيفاً مرذولاً، ولكنه كان أقوى من جميع البشر حين قال «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو23: 34)، لقد كان قصد السيد المسيح الأول هو إظهار محبة الله للبشر وقد ظهرت من خلال الصليب المقدس.

إن مقابلة الخير بالخير هو عمل إنسانى، ومقابلة الخير بالشر هو عمل شيطانى، أما مقابلة الشر بالخير فهو عمل إلهى. فالغفران عمل صعب على البشر لأنه ليس من طبيعتهم، ولكنه يحتاج قوة إلهية خاصة نابعة من المحبة التى سكبها الله فى قلب الإنسان المسيحى (رومية 5: 5)، وبها يغفر ويسامح ويغسل قلبه ونفسه من الإساءة ومن المرارة، ولذا نصلى يومياً: «قَلْباً نَقِياً اخْلُقْ فِىّ يَا اَللهُ، وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِى أحْشَائِى» (مزمور 50).

لقد قدم السيد المسيح غفرانه للجميع، أفراداً كانوا أو حشوداً من الجماهير.

قدم محبته للخطاة:

خلال مدة خدمة السيد المسيح على الأرض قابل خطاة لم يحبهم أحد وكانوا عطاشى إلى المحبة، منهم المرأة الزانية التى أحضرها إليه اليهود «فقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِى زِناً»، وقالوا له إن موسى أمر برجم الزوانى (تث 17: 5، 6)، فماذا يقول هو. «قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَىْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ».

أما السيد المسيح فقد تجاهلهم وبدأ يكتب على الأرض بإصبعه، وعندما ألحّوا عليه قال لهم: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ»، فبكتتهم ضمائرهم وابتدأوا ينسحبون الواحد وراء الآخر، وهنا نظر إليها السيد المسيح قائلاً «يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟»، فأجابته بالنفى، «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِى وَلاَ تُخْطِئِى أَيْضاً» (يو 8: 7).

قدم تسامحاً مع عشار:

إذ كانت فئة العشارين الذين يحصلون الضرائب من الشعب، فئة مكروهة من الجميع، وكان زكا رئيس العشارين يطلب أن يرى السيد المسيح، وعندما علم أنه مجتاز من أريحا، ذهب إلى الطريق ولكن لقصر قامته لم يستطع بسبب الازدحام الشديد، «فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَىْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِى أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِى بَيْتِكَ» وأمام هذه المحبة، وَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِى نِصْفَ أَمْوَالِى لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ» وبهذه المحبة قدم الله غفراناً لزكا. (لو19).

قدم غفراناً لجموع هتفت «اصلبه اصلبه»:

كانت الجموع وقبل الصلب بأيام قليلة وعند دخوله أورشليم تهتف له أوصنا لابن داود مبارك الآتى باسم الرب، متوهمة أنه ملك أرضى، سوف ينقذهم من الرومان، الذين كانوا حكامهم فى ذلك الزمان، ولكن حينما اكتشفوا أنه لن يحكم بلادهم، لكنه يريد توبة ويملك غفراناً، ولن يجزل المال لهم، تغيرت المشاعر ونفس الجموع وأمام بيلاطس البنطى صرخوا اصلبه اصلبه دمه علينا وعلى أولادنا، أما هو فقد قدم ذاته على الصليب فداء عن هؤلاء الذين أرادوا قتله.

كما قدم أيضاً غفراناً لأفراد.. منهم تلميذ أنكر:

ففى أثناء القبض على السيد المسيح فى بستان جثيمانى، هرب تلاميذه، لكن تبعه إلى دار الولاية يوحنا وبطرس الرسولان، أما بطرس قد كان ينظر من بعيد، ولأنه جليلى ولغته مختلفة عن سكان أورشليم عرفه الخدم من لغته وأشارت جارية عليه قائلة: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ!» فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِى مَا تَقُولِينَ!» ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: «وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِىِّ!» فَأَنْكَرَ أَيْضاً بِقَسَمٍ: «إِنِّى لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» (مت 26: 73)، لكنه بعد القيامة وحين قابله سأله سؤالاً واحداً وكرره ثلاث مرات «أتحبنى؟» وأجاب بطرس فى خجل نعم يا رب أنت تعلم أنى أحبك، وهنا لم يعاتب السيد المسيح عما مضى بل قال له غافراً كل ما صنعه «ارعَ خرافى».

وقدم غفراناً للص مصلوب عن يمينه:

حين قال له «اذكرنى يا رب متى جئت فى ملكوتك» وكانت إجابة السيد المسيح سريعة وفورية «اليوم تكون معى فى الفردوس» لقد غفر السيد المسيح للجميع، لمن جلده ومن اقتسم ثيابه، لمن صلبه ومن أمر بصلبه، غفر بقوة لكل من أساء إليه.

يا صديقى: أن تسامح الإنسان الآخر الذى أساء إليك هو قرارك بإرادتك ورغبتك واختيارك.. ولكن اعلم أن مكسبك كبير للغاية وهو الحصول على قدر أكبر من الرحمة الإلهية والشفاء الداخلى الذى تحتاجه فى حياتك الحاضرة والآتية أيضاً.

لتكن صلاتك: أعطنى يا رب طاقة تسامح وغفران لكل من أساء إلىَّ.. املأ قلبى بمحبتك فأستطيع أن أحب حتى الذين أساءوا إلىَّ فى مشوار حياتى. لا تدعنى أحمل ضغينة ضد أى أحد.. علمنى أن أسامح وأن أغفر وأن أحب رغم الضعف والفكر والميول القلبية الشريرة التى تحاربنى وتبعدنى عن طاعة وصيتك الغالية «اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» (لوقا 6: 37).

وفى هذه المناسبة أهنئ كل الشعب المصرى بفترة الأعياد التى نمر بها الآن، كما أشكر فخامة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى على تهنئته الرقيقة، وكذلك السيد المستشار رئيس مجلس النواب والسيد المستشار رئيس مجلس الشيوخ، والسيد الدكتور رئيس مجلس الوزراء، والسادة الوزراء والقوات المسلحة والشرطة الوطنية وجميع المسئولين الكرام على أرض مصر، الذين قدموا لنا التهنئة القلبية، ونصلى أن يديم الله المحبة، كما نرفع قلوبنا مع صلواتنا لكى يوقف الله كل صراع فى كل مكان فى العالم ويحل الهدوء والسلام على الأرض وفى القلوب، وكل قيامة وأنتم جميعاً بخير وفرح وسلام.

البابا تواضروس الثانى

 

البابا تواضروس الثانى

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights