مقالات وأراء

’من هنا وهناك’ بقلم د’سامح توفيق’: هل يمكن لحمار أن ينقذ إنساناً قرر الانتحار؟

د سامح توفيق
د سامح توفيق

هذا ما حدث في فيلم «الحياة معجزة» للمخرج البوسني أمير كوستوريتسا إنتاج عام 2004، وغيره من الأمور الغريبة والفريدة، مثل رجل يرتدي قفازات الملاكمة قبل ممارسة الحب، ومحافظ المدينة الذي يعمل بجد ولكنه مهووّساً بالاتصال بالقنوات الإباحية بعد أدائه عمله. كل ذلك عادي ومباح لشخوص حكايات كوستوريتسا الذين يعيشون على هامش الزمن، مترنحين حتى الثمالة، دون أن يسقطوا، وغالبا ما يتوقف الزمن من أجلهم.

يفتتح كوستوريتسا الفيلم بلقطة لرجل يصرخ “أنا مفلس”، وكعادته يخلط الجد بالهزل بالفنتازيا بالتهيؤات بالواقع، فلا نعرف ما هو المقصود منها، نجد كثير من الحيوانات التي تتصرف تصرفات غريبة أشهرها الحمار الذي يقف على السكة الحديد يرغب بالانتحار نتيجة فشله في قصة حب.

لوقا مهندس سكك حديدية يعيش في كوخ يطل على السكة الحديد، ونشاهد سكان هذه القرية وهم يستخدمون قضبان السكة الحديدية على طريقتهم الخاصة المبتكرة، فالكل يستعمل سيارات معدلة لتمشي على السكة، مثل أن تكون من دون عجلات، ومع ذلك تقطع المسافات في سهولة ويسر، في عدد من المشاهد واللقطات الطريفة. فيلم موسيقي تسمع صدى آلات النفخ مصاحبة لمعظم مشاهده، ساعي البريد نراه يحمل الرسائل متنقلاً على سكة القطار، بعربته العجيبة، ويعارضه حمار يقطع عليه الطريق، ويطرق باب منزل المهندس، ونتعرف على زوجته الهستيرية، وابنه الذي يدمن لعب كرة القدم. ثم يسلط كوستوريتسا الضوء على نهاية حرب البوسنية عبر قصة حب تنشأ بين مهندس السكك الحديد الصربي وامرأة بوسنية بعد أن تهجره زوجته الهستيرية، ولكم أن تتخيلوا الروعة في تصوير تلك العلاقة التي تندلع فجأة لدرجة تصل بهما إلى الطيران بالسرير الذي يجمعهما، ونسيانهما الحرب وكل ما يحيط بهما من جنون.

لا ينسي كوستوريتسا مأساة سراييفو ولا يريد لنا أن ننساها أو نتجاهلها وسط صخب الحياة ومتاعبها، وفي لقطة لخص من خلالها ما حدث لسراييفو، نري قطة تنقض على حمامة وتمزقها، اللقطة نفسها التي طلبت منه الرقابة البريطانية حذفها عند عرض الفيلم في بريطانيا، لأنها لقطة وحشية ومؤذية، وستؤذي مشاعر المشاهد الإنجليزي، الأمر الذي رفضه تماماً صاحب “الحياة معجزة”، قائلاً: «الأمر مدعاة للاستغراب، لا أستطيع فهم أن الحضارة الإنجليزية العظيمة قد تقوّضها قطة من أوروبا الشرقية»، وأضاف في حينها بعد رفضه القاطع حذف اللقطة «الإنجليز يثيرون استغرابي، فبعد قتلهم ملايين الآسيويين والأفارقة، فإنهم يهتمون لمقتل حمامة كانت ميتة في الأصل قبل تصويري تلك اللقطة.

كل شخصيات الفيلم تعيش حالة من التوتر العصبي، ولولا خلفية الاحداث السياسية والحرب بين البوسنة والصرب، لما كان هناك رابطا بين الأحداث، وهو خيط رفيع جدا. طريقة السرد مشوشة وعصبية تصيب المشاهد بالذهول، ميزة الفيلم أنه مفعم بالحياة، وبحب الحياة. بالرغم من انهيار كل شيىء، فإن علينا، من دون أن نغرق في التشاؤم، أن نبقى واقعيين في مواجهة ما نراه ونعيشه ونحاول أن نسعد به.

«علينا أن نبني بأنفسنا اليوتوبيا الخاصة بنا، وذلك لأن كل روح يتم إنقاذها، كل نفس يتم انقاذها، قادرة على أن تضيف إلينا شيئاً ما»، بهذه الكلماتً، تحدث المخرج عن فيلمه «الحياة معجزة».

يقدم كوستوريتسا شهادته عن الحرب التي دمرت وطنه، ولوطنه، ويقرر أن الحرب الحقيقية هي ممارسة الحياة والحب ما دمنا في عداد الأحياء، قدم المخرج شهادته بين الماء والهواء والأرض النار وونباتات الطبيعة والحيوانات والطيور، وتلك هي عناصر البيئة والحياة، وموقفه إزاء هذا كله.

الموسيقى الشعبية حاضرة بقوة، ولوحات مارك شاجال، وحكايات شكسبير الخيالية، فالموضوع العام لـ «الحياة معجزة» يتماس مع رائعة شكسبير «روميو وجولييت»، ونجد عبارات كثيرة في حوارات الفيلم مستقاة من أعمال شكسبير المشهورة. في مزج موفق بين الموسيقى والرسم وشكسبير، أعطى فيلم «الحياة معجزة» زخماً كبيراً.

تقيم القرية حفلا صاخبا لوداع ابن لوقا للمشاركة في الحرب مجندا بعد أن طلبته فرقة مشهورة لكرة القدم للعب معها، الموسيقى المصاحبة لشريط الصورة يتم عزفها على ايقاع مارش مبهج جدا وتقدم والدته فاصلا ترفيهيا من الرقص والغناء مع أبناء القرية، ثم يقع الصبي أسيرا في يد البوسنة، وتتركة زوجته نصف المجنونة والتي تريد أن تستعيد مجداً فقدته كمغنية أوبرا مع موسيقي شاب مع موسيقي شاب. ثم يحدث له ما ليس في الحسبان، يخطف أبناء بلدته الصرب، فتاة مسلمة بوسنية هي «صباحا» ويعهدون بها إليه حتى يقايضها بابنه. يرفض أولاً ثم يقبل. ولكنه بين ذاك وهذا كان قد وقع في حب الفتاة، وهذه واحدة من معجزات الحياة.

ويعيش لوقا وصباحا تفاصيل حبهما وسط عالم شديد العدائية. ويقدم كوستوريتسا فصلا يقتبس من الشكسبيري بامتياز عالماً خاصاً به، تلعب فيه الموسيقى والكوميديا السوداء، والمعجزات التي تحدث من دون توقّع والدمار الذي يأتي من حيث لا يعرف أحد، وعالم يشكل الحيوان، جزءاً أساسياً منه. حمارة تريد الانتحار لأن حبيبها الحمار غابن وحصان لا يريد أن يفارق صاحبة ساعي البريد، ودجاج يملأ كل مكان، وعصافير وقطط وكلاب تتعارك دون سبب. وكعالم لوحات شاجال، للحيوانات دور أساسي، حتى في تفسير مزاجية الشخصيات، وللطبيعة دور يحتضن كل هذه المفردات، ويصير القطار المفروض أن يربط اجزاء القري ببعض، سبب قطيعتها، كما تفعل القذائف والأحقاد.

معجزة الحياة تكمن في النهاية التي اختارها كوستوريتسا لفيلمه، حين اختار لوقا أن أن ينهي حياته بالانتحار أمام القطار وعلى السكة الحديد الذي أفنى عمره في تشييدها، إذ انتصرت الحرب على الحب، وخيل إليه أنه بالتالي يجب أن يكون منطقياً، انتصار الموت على الحياة. لكن القطار يقف في اللحظات الأخيرة، قبل أن يدهس الحمار ولوقا اللذين يرغبان في الانتحار لفشل حبهما.

قدم كوستوريتسا فيلمه وحلمه ضد بشاعة الحرب وتدميرها الداخلي والخارجي للبشر، فهو البوسني الذي كان يعتبر نفسه آخر اليوغوسلافيين، والذي كثيرا ما عبّر عن ذلك في عدد من أحاديثه ، وأفلامه.

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights