مصر30/6

“عبدالحليم قنديل”يكتب: على باب الحرب العالمية ..

حققت روسيا نصرها الظاهر على 54 دولة واجهتها فى الحرب الهجينة ..

    ربما يدخل الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” فى نوبة هلوسة جديدة على جبهة حرب أوكرانيا ، آخر تصريحاته بالخصوص ، أنه قد يلتقى الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى”على هامش الانعقاد السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة ، وبهدف إقناع “زيلينسكى” بالفرصة الأخيرة لوقف الحرب ، و”عقد صفقة” مرضية لروسيا وزعيمها “فلاديمير بوتين” ، وكان “ترامب” التقى “بوتين” فى قمة “ألاسكا” 15 أغسطس 2025 ، وبدا “ترامب” وقتها مقتنعا بوجهة نظر “بوتين” ، الذى رفض مساعى البدء بوقف إطلاق النار ، وطلب التوصل إلى اتفاق سلام شامل أولا ، وكان المفهوم وقتها ولا يزال ، أن “بوتين” يطلب أولا تسليما من أوكرانيا والغرب بحقائق الواقع على الأرض ، وضم المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون) مع شبه جزيرة القرم نهائيا إلى روسيا ، وهو ما أطلق عليه “ترامب” وقتها خطة “تبادل الأراضى” ، أى أن تخرج القوات الأوكرانية من منطقة تبقت بيدها فى غرب مقاطعة “دونيتسك” ، ومقابل أن يعطى “بوتين” لأوكرانيا قطعا من مساحات إضافية تسيطر عليها روسيا فى مقاطعات “خاركيف” و”سومى” و”دنيبرو بتروفسك” ، وعقب عودته من قمة “ألاسكا” التى عدتها الصحف الأمريكية الكبرى انتصارا خالصا للرئيس الروسى ، راح “ترامب” يجتمع بالقادة الأوروبيين مع “زيلينسكى” فى البيت الأبيض ، ويتركهم فى انتظاره لإجراء مكالمة ليلية مطولة مع “بوتين” ، عاد بعدها “ترامب” إلى ضيوفه الذين جلسوا أمامه كأطفال حضانة ، وأخبرهم أن الرئيس الروسى وافق على عقد قمة مع الرئيس الأوكرانى خلال أسبوعين ، وهو ما لم يحدث إلى اليوم ، وأغلب الظن أنه لن يحدث قريبا .

    ولم يكن مفاجئا مع توالى الأيام والأسابيع ، أن يعود “ترامب” إلى إحباطه الدورى وخيبة أمله فى وعود “بوتين” ، الذى واصل تلاعبه بأعصاب “ترامب” والقادة الأوروبيين معا ، وبهدف كسب الوقت لحملته الحربية ، ونقل الخلافات إلى داخل المعسكر الغربى وحلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، ولجأت القيادة الروسية إلى تصرفات تكتيكية مدروسة ، فلم يعلن قصر “الكرملين” أبدا عن رفض “بوتين” لفكرة عقد القمة مع “زيلينسكى” و”ترامب” معه ، واقترح بعد نفاد مهلة الأسبوعين ، أن يلتقى “بوتين” مع “زيلينسكى” فى موسكو ، وكان مفهوما أن يعلن “زيلينسكى” رفضه عقد اللقاء فى عاصمة عدوه ، فيما انهمك القادة الأوروبيون المنخرطون فيما يسمى “تحالف الراغبين” ، وهى التسمية ذات الإيحاءات الحميمية لا السياسية ، انهمك (الراغبون) فى بحث تفاصيل ما أسموه “ضمانات أمنية” لأوكرانيا بعد التوصل لاتفاق السلام ، وكانت ردود موسكو الضمنية ظاهرة المغزى الحازم ، فروسيا ترفض أى وجود لقوات من دول حلف “الناتو” وحدها فى أوكرانيا ، وتعدها تحايلا من باب خلفى على تعهد “ترامب” بعدم ضم أوكرانيا أبدا لحلف الأطلنطى ، وهو ما جعل “ترامب” باردا فى طريقة تفاعله مع الحلفاء الأوروبيين ، الذين طالبوا “واشنطن ” بالمشاركة الجدية الحامية فى الضمانات إياها ، ثم تفاقمت خلافات الأوروبيين بشأن فكرة الضمانات المطروحة وحدودها وقواتها والتزاماتها ، ثم عاد (الراغبون) إلى المربع الأول ، واكتفوا بدفع مئات مليارات الدولارات واليوروهات ، وبتدفقات السلاح الأوروبى إلى الميدان الأوكرانى . 

    وكان نجاح “بوتين” ظاهرا فى تفكيك التحالف الغربى ، وهو ما دفعه إلى تصعيد محسوب فى سياسة حافة الهاوية ، ودخلت عشرات من المسيرات الروسية إلى سماء “بولندا” غرب أوكرانيا ، ثم إلى سماء رومانيا المجاورة ، وإن أنكرت موسكو أنها فعلت ، وبما استثار ردود فعل غاضبة من أعضاء “الناتو” الأوروبيين ، الذين طلبوا كالعادة نجدة من واشنطن ، ولم تكن من استجابة محسوسة سوى بتحليق بعض المقاتلات الفرنسية وغيرها فى سماء “بولندا” ، وإعلان “الناتو” عن تنفيذ خطة يسميها “الحارس الشرقى” ، التى لم تكن سوى تظاهرا عسكريا خاليا من المعنى والتأثير الفعلى ، ودون التورط فى فرض منطقة حظر جوى غرب أوكرانيا تستفز روسيا ، وبدت التحركات الغربية المحدودة كرد باهت على مناورة عسكرية كبرى دارت فى أراضى بيلاروسيا المجاورة لبولندا ، شاركت فيها القوات الروسية مع رفيقتها البيلاروسية شبه المندمجة فى الكيان العسكرى الروسى ، وحملت المناورة اسم “الغرب 2025” ، وبدت المناورة كأنها تحاكى حربا من حول “ممر سوالكى” ، وهو خط سكك حديدية على حدود “بولندا” و”ليتوانيا” عضوتى حلف “الناتو” ، ويصل “ممر سوالكى” الحيوى بين البر الروسى الرئيسى ومقاطعة “كالينينجراد” الروسية شمال “بحر البلطيق” ، التى كانت فيما مضى تابعة لأراضى ألمانيا ، قبل أن تقتطعها روسيا فى الزمن السوفيتى مع نهايات الحرب العالمية الثانية ، والمقاطعة هائلة الأهمية فى موازين القوة بين روسيا وحلف “الناتو” بعد توسعه شرقا ، وتبدو “كالينينجراد” على الخرائط كأنها خنجر روسى مغروس فى قلب الغرب ، وتحتفظ فيها روسيا بقواعد عسكرية وبميناء عسكرى وبمخزونات ضخمة من الأسلحة والصواريخ النووية ، وفى العقيدة الروسية المعمول بها ، فإن أى تهديد عسكرى لممر “سوالكى” يعنى فتح الباب لإشعال حرب نووية عالمية ، وهو ما تدركه واشنطن كما موسكو ، اللذان يريدان تجنب حرب نووية تهدد بإفناء العالم كله 14 مرة على الأقل ، وهذا هو المعنى المخيف لنشوب حرب عالمية ثالثة .  

   وكما تبدو واشنطن مترددة وراغبة فى لجم التصعيد العسكرى مع روسيا المتحفزة ، فإن الإدارة الأمريكية ، و”ترامب” بالذات ، لا يبدو راغبا بالمشاركة فى فرض عقوبات اقتصادية جديدة على الروس ، رغم مطالبات لحوحة من أوكرانيا و”تحالف الراغبين” والكونجرس الأمريكى نفسه ، فقد جرى فرض 24 ألف عقوبة اقتصادية أوروبية وأمريكية على روسيا ، ولم تؤد تلال العقوبات إلى خنق الاقتصاد الروسى ، بل تحقق العكس بالضبط ، وزاد انتعاش اقتصاد روسيا ، وتضاعف إنتاجها الحربى مرات ، و”ترامب” ممن يعتقدون أن العقوبات ضد روسيا عديمة الجدوى ، وقال ذات مرة قريبة ، أن الروس ماكرون وبارعون فى تجنب آثار العقوبات ، وربما لذلك ماطل ويماطل فى التجاوب مع مطالب فرض المزيد من العقوبات ، ووضع شروطا تعجيزية للأوروبيين وأعضاء “الناتو” عموما ، وطالبهم بفرض رسوم جمركية تصل لمئة بالمئة على الواردات من أصدقاء روسيا ، وعلى الصين والهند والبرازيل بالذات ، كما طالبهم بوقف استيراد البترول والغاز الطبيعى الروسى ، إما مباشرة أو عبر طرف ثالث ، وهو طلب تعجيزى لكثير من الأوروبيين والأطلنطيين ، فدول مثل “تركيا” و”المجر” و”سلوفاكيا” تعتمد كثيرا على واردات الطاقة الروسية الأرخص سعرا ، فوق أن الحروب الجمركية مع الصين والهند تهدد بتدمير أوسع لاقتصادات أوروبا المعانية ، و”ترامب” يعرف أن المعنيين لن يقبلوا شروطه المتعسفة طبعا ، ويتخذ من رفضهم تكئة لتبرير تقاعسه عن فرض عقوبات جديدة ضد روسيا ، فيما يبدو “بوتين” سعيدا بمنجزاته فى خطة تفكيك التحالف الغربى ، ويثق بالفشل الأكيد لمحاولات خنق روسيا ، التى صارت تتمتع بعلاقات أوثق مع الصاعدين الجدد على خرائط الاقتصاد العالمى ، ومع الهند وقبلها الصين ، التى تتقدم بثبات إلى عرش العالم فى الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا الأعظم تطورا .

     وربما لم يعد من عاقل يجادل فى مغزى وقائع الميدان الأوكرانى ، فقد حققت روسيا نصرها الظاهر على 54 دولة واجهتها فى الحرب الهجينة ، وأعادت إثبات القاعدة العامة السارية فى حروب روسيا الوجودية ، وهى أن الروس ينهزمون مرات قبل الانتصار النهائى ، وهكذا كان الحال فى المفاصل الكبرى ، من حرب “نابليون” على روسيا أوائل القرن التاسع عشر ، وإلى حملة “بارباروسا” الهتلرية فى أربعينيات القرن العشرين ، وهو ما عادت بعض ملامحه للظهور مجددا فى الحرب الجارية المتصلة من نحو أربع سنوات ، التى يطلق عليها “بوتين” تسمية الحملة العسكرية الخاصة ، ودونما اضطرار لإعلان حالة طوارئ أو التعبئة العامة بنسبة تتجاوز 1% لا غير ، وجرت فى الحرب تراجعات وانتكاسات روسية موقوتة المدى ، وصلت فى ذروتها لاحتلال ألف كيلومتر مربع من مقاطعة “كورسك” الروسية على مدى شهور ، إضافة لغارات المسيرات الأوكرانية على قواعد القاذفات بعيدة المدى ومصافى البترول الروسية ، لكن موسكو أثبتت مقدرة لا تنفد على التحمل ، ثم استئناف المبادرة فى الميدان من جديد ، وكان اللافت فى وعى وذكاء “بوتين” ، أنه جعل من حرب أوكرانيا حدثا ملتصقا بحركة التحول من عالم القطبية الأمريكية الوحيدة إلى العالم متعدد الأقطاب ، ووضع روسيا فى قلب التحول الذى تقوده الصين منذ عقود ، وجاءت حرب أوكرانيا كاشفة لا منشئة لملامحه ، التى تكاثرت أماراتها فى شرق العالم وجنوبه ، وتكاد لا تستثنى سوى غالب أفريقيا وعالمنا العربى ، الذى خرج من حساب التاريخ المتحول قبل نصف قرن ، ولم تكن دوله طرفا فعالا فى قفزات العلم والإنتاج والتصنيع والتكنولوجيا والتجدد الحضارى الذاتى لا المستعارة قشوره ، ومن ثم سقطنا فى الثقب الأسود ، وفى ظلمات الاستعباد الأمريكى “الإسرائيلى” ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا بنا وبهم .

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
Verified by MonsterInsights