إقتصاد

غنيم: خرجنا من العناية المركزة واقتصادنا مازال فى موقف صعب

يقول الدكتور أحمد غنيم، أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ردا على أسئلة عن مستقبل مصر الاقتصادي: إن الاقتصاد المصرى خرج من العناية المركزة لكنه لا يزال فى المستشفى، ويؤكد أن طريق الإصلاح المؤسسى طويل لكن لا مفر منه، داعيا إلى إصلاحات هيكلية داعمة للتصدير و«اللامركزية».

وطالب غنيم بوزارة خاصة للتجارة الخارجية لأهمية هذا الملف، وعدم السير فى طريق الجباية، وضخ مزيد من التمويلات لرعاية محدودى الدخل، قائلا إن من الصعب تحديد هوية الاقتصاد المصرى بعيدا عما يجرى فى العالم من مراجعات للعولمة النيوليبرالية.. والى نص الحوار.

السؤال الأول

هل تجاوزنا فعلًا صعوبات المرحلة، وإلى أى مدى تغطى التدفقات الحالية احتياجاتنا؟

لقد خرجنا من غرفة العناية المركزة؛ لكننا ما زلنا فى المستشفى. صحيح أن التدفق النقدى من صفقة رأس الحكمة أعطى قبلة الحياة للاقتصاد المصرى؛ لكن التدفقات الحالية والمتوقعة تكاد تغطى سداد الديون والالتزامات، وبالتالى ما زال الاقتصاد فى موقف صعب، وليس بالضرورة حرجا، لكننا فى النهاية لم نتخط الأزمة بعد.

ومن الواجب أن نحدد وضعية الاقتصاد المصرى لنتعامل معه بشكل سليم، فهو اقتصاد صغير محدود المزايا النسبية مقارنة بالآخرين، لكنه متنوع ويمتلك مزايا نسبية فى مجالات عديدة ومحددة، مع مراعاة أنه حتى المزايا النسبية التى يتمتع بها، مثل السياحة وقناة السويس واللوجستيات، لم يقم بتعظيم مركزها التنافسى أو عوائدها بالشكل المطلوب. حقيقة الأمر، الاقتصاد المصرى على المستوى الإقليمى هو اقتصاد نسبيًا كبير، ليس لأنه كبير فى ذاته، لكن لأن حوله مجموعة من الاقتصادات ذات الحجم الصغير، وعليه فعند التعامل مع هذا الاقتصاد لا يمكن مقارنته بالاقتصادات الكبيرة، فوضعه مختلف، والإمكانات الكامنة فيه والآفاق التى يمكن أن ينفتح عليها، هى التى تحدد مصيره، كما يحدده أيضًا كون الإدارة ناجزة أو عاجزة.

السؤال الثانى

ماذا يعنى الإصلاح المؤسسى ورفع مستوى المساءلة واقعيا وما الأمل بتنفيذه؟

الإصلاح المؤسسى تعبير واسع جدا، ويتعلق بإيجاد المؤسسات والكيانات والمنظمات الملائمة، والعصرية والفعالة، والتأكد من اتباعها للإجراءات المناسبة ومنهج العمل المدروس، ومع هذا الإصلاح يلزم وجود نوع من التقييم والمساءلة ونوع من الحوكمة، وبالتالى فإن الإصلاح المؤسسى يرتبط بطيف واسع من الإجراءات؛ فهو مثلا يتطلب إصلاحا تشريعيا وتنظيميا، وتغيير دورة وطريقة أداء الأعمال وآليات التوظيف، وهذا الإصلاح أمر بعيد المدى، لكن لا نريده بعيد المنال، وهو أيضا قد يتطلب التطرق إلى اللامركزية والتخطيط الجاد للتحول الوطنى إليها وفتح المجال أمام المحافظات للابتكار والإبداع والتطور، ويحتاج الأمر أخيرا إلى إصلاح منظومة العدالة والتقاضى، وكل ذلك يوضح أن هناك نطاقا عريضا من المهام المطلوبة لتحقيق إصلاح مؤسسى ناجع.

وهناك قضايا ذات صلة وثيقة بالإصلاح المؤسسى ولا تلقى الانتباه الواجب وعلى رأسها التصدير، وما زال ما يخص التصدير يتأرجح بين الصناعة مرة والاستثمار مرة، على الرغم من أن التصدير يمكن أن يحد كثيرًا من الخلل فى الميزان التجارى، الذى هو من بين أهم الاختلالات فى الاقتصاد المصرى حاليًا، ويجب أن تكون لدينا وزارة للتجارة الخارجية، وزارة مستقلة، مع إيمانى بأهمية عدم التوسع فى عدد الوزارات، إلا أن هذا الملف الحيوى، يستحق أن يكون له كيان خاص وأن يكون ذلك فى إطار الإصلاح المؤسسى المنشود، مع الإشارة إلى أن الاهتمام بالتصدير سيكون له دور قوى فى جذب الاستثمار الأجنبى، لأن الاستثمار الخارجى يأتى أساسًا من أجل الإنتاج للتصدير.

السؤال الثالث

كيف نضبط الحدود بشكل دائم بين دور الدولة فى النشاط الاقتصادى ودور القطاع الخاص؟

لقد حددت وثيقة ملكية الدولة هذا الآخر بشكل واضح، ورسمت إطارا صريحا للعلاقة بين كل من الاستثمار العام والخاص، لكن التنفيذ على أرض الواقع ما زال بعيدا عن المطلوب ويحتاج إلى دفعة قوية ليتماشى مع الإرادة السياسية من وراء إخراج هذه الوثيقة للنور. هناك مشاكل فى التنفيذ، كما أننا لم نسمع عما تم إنجازه وعما صدر من قرارات وأفعال للتطبيق.. ومازلنا نسأل: هل توجد آلية للمراجعة أم لا؟، وآلية لقياس نسبة الإنجاز أم لا؟. وسيناريوهات بديلة لتعويض ما لم يتحقق.. مجددا أكرر أن هناك صعوبات فى التنفيذ وأنه لابد من وقف تدخل الدولة فى مشروعات جديدة، وإسناد كل المشروعات إلى القطاع الخاص، ونحن متأخرون فى إنجاز تلك المهمة الحيوية.

السؤال الرابع

عجز الموازنة واحد من أهم الاختلالات.. كيف نتعامل معه بسياسات جديدة؟

عجز الموازنة ليس جديدا وأسلوب علاجه ليس جديدا أيضا، وقد جربنا الحل مع حكومة الدكتور أحمد نظيف التى استمرت من منتصف ٢٠٠٤ إلى بداية ٢٠١١، ومن خلال الدكتور يوسف بطرس غالى وزير المالية فى تلك الحكومة، الذى قلب السياسة المالية وذهب بها إلى عكس ما يريد صندوق النقد الدولى. الصندوق يدفع دوما باتجاه زيادة الإيرادات الضريبية دون عناية بالآليات والظروف الموضوعية ويتغافل عن الأثر السلبى لذلك، ولذا قام يوسف بطرس بتخفيض معدل الضريبة بقوة وتشديد العقوبة على المتهربين ما أسفر عن زيادة فى الحصيلة مع زيادة فى مستوى رضا الممولين عن السياسة الضريبية وزيادة إقبال المستثمرين الخارجيين على السوق المصرية، ومن هنا أقول إن الاستمرار فى السياسة الضريبية الحالية لن يوصلنا إلى أى شىء، وهناك كما هو واضح مستتبعات اجتماعية وسياسية سيئة لهذا التوجه، ولا بد من وقفه تماما والتفكير فى أدوات أخرى غير فرض مزيد من الضرائب والرسوم، وغير تقليل الدعم؛ حتى نستطيع عمل علاج حقيقى مستدام لعجز الموازنة، وحتى نسير على طريق يمكن معه جذب الأموال الطازجة من مصادر مستدامة كالتصدير وتسويق الخدمات عالية القيمة خارجيا، ومن الاستثمارات الجديدة، أى أن نفكر خارج الصندوق، حسب التعبير الشائع، حتى يكون لدينا توجه مالى استثمارى اقتصادى فعال ومستقر ومحقق لطموحات المواطنين.

السؤال الخامس

كيف نصل إلى تحديد هوية واضحة لتوجهاتنا الاقتصادية فى ظل التأرجح بين أكثر من توجه؟

العالم كله فى حالة مَرْجَحة وصعود وهبوط بين يسار متطرف ويمين متطرف، وقد باتت العولمة محل مساءلة ومراجعة شديدة، خاصة مع انفجار أزمات الديون والطاقة والمناخ وسلاسل الإمداد والتضخم والتفاوت العميق بين الفئات الاجتماعية داخليا، وبين الدول على المستوى العالمى.. إلخ، مما جعل نموذج الليبرالية الاقتصادية غير مرغوب فيه، والعالم كله مشغول بمحاولة إيجاد نموذج مختلف مغاير أو معاكس للنموذج الحالى ليسير عليه، وليس بالضرورة أن يكون ليبراليا. لكل ما تقدم فمن الصعب تحديد هوية الاقتصاد المصرى بمعزل عن تلك التوجهات العالمية، وإن كانت هناك أمور يجب عملها؛ مثل تقليل تدخل الدولة فى الاقتصاد وتقليل البيروقراطية وتيسير الإجراءات وإزالة المعوقات، وتلك أمور لا ترتبط بالهوية لكنها مطلوبة لأى اقتصاد كى يؤدى بطريقة معقولة.

السؤال السادس

كيف نعالج عجز الاقتصاد عن المنافسة، وتحقيق درجة مقبولة من العدالة الاجتماعية؟

حين نتحدث عن عجز الاقتصاد المصرى عن المنافسة يجب أن نعرف أن طريق المنافسة يحتاج إلى قطع خطوات طويلة على أصعدة متعددة، والمضى بثبات لوقت طويل فى إطار اقتصادى واضح، لكن أيضا يجب أن نقول إننا لسنا بعيدين عن المنافسة فى بعض المجالات والصادرات الخدمية، مثل تكنولوجيا المعلومات، التى من الممكن عمل نقلة فيها من خلال مضاعفة عدد الكيانات العاملة وتوفير الكفاءات وتطوير المنتجات، ولا بد من الاتجاه إقليميا وتعظيم الميزة النسبية لمصر، وبعد الإقليمى ندخل على خط المنافسة العالمية؛ من موقع جيد واقتحام سلاسل الإمداد الحالية مع التركيز على وجود خطة واضحة للصناعة والزراعة والخدمات وما يمكن تصديره من كل قطاع وآليات تحفيز ذلك، أما فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية فالطبقة المتوسطة تعيش فى معاناة قاسية بسبب تردى أحوالها وتراجع مكانتها وقدراتها المعيشية، وفى المقابل كذلك فإن برامج الحماية الاجتماعية للفقراء لم تعد قادرة على أداء الوظيفة بشكل ملائم بسبب التضخم وسوء الخدمات، ولا بد بشكل خاص من وقف فرض أى ضرائب على الطبقة المتوسطة لأنها تنوء بما تحمله، أما الطبقة الفقيرة فلا بد من ضخ تدفقات أكثر سخاء إليها وتعويضها عما فقدته جراء التضخم وزيادة التشغيل كأفضل مدخل لعلاج الفقر. وعند النظر إلى ملف العدالة الاجتماعية، وتوزيع الدخل بشكل عادل، يجب إدراك أن موجات التضخم المرتفعة التى مر بها الاقتصاد المصرى، والأزمات الخارجية التى فاقمت من الموجات التضخمية، عظمت الفجوات بين الفئات المختلفة، وهو أمر يجب أن يأتى علاجه فى أولويات أى حكومة بعد مشكلة الدين، حيث إنه أدى إلى مشكلة فى الفقر الحقيقى وارتفاع نسبة الفقراء، ونحن لا نعلم بعد المستوى الذى وصل إليه الفقر حاليا لأن آخر تقدير من جهاز الإحصاء كان فوق ٢٩٪ بقليل، لكن ذلك مضى عليه وقت طويل نسبيًا.

وأعتقد بعد الأزمات المختلفة أن نسبة الفقر سوف ترتفع بشكل واضح، واتساع الفجوات بين الطبقات سيتزايد، وهناك أيضًا أمر آخر، هو ارتفاع الفقر النسبى، المصاحب لزيادة التفاوت بين الطبقات وذلك شأن لا يتم العناية به كثيرًا، أيضًا فإن التفكير الجارى الآن لتحويل الدعم العينى إلى دعم نقدى قد يفضى كذلك إلى زيادة الفقر، وبالتالى يجب التعامل معه بحذر، وأنا لست ضد التحول كمبدأ لكن مع الدراسة الجيدة، واختيار التوقيتات والآليات المناسبة.

السؤال السابع

ما أسرع الإجراءات المقترحة لاستعادة ثقة المجتمع بأطيافه والشركاء الخارجيين فى السياسات الاقتصادية؟

شفافية.. مصارحة.. مصداقية، هذا هو أهم عنوان للإجراءات الواجب اتباعها على المدى القصير، لأنه للأسف ليس هناك قنوات اتصال جيدة بين الحكومة والمجتمع وعالم الأعمال والمستثمرين الخارجيين، وهناك مساحة بين القول والفعل، وقد رأينا قريبا مسئولا يؤكد أن أسعار سلع معينة سترتفع حتى قبل أن ينعقد الاجتماع الأول لمجلس الوزراء الجديد وذلك أمر غريب، ولابد من اتخاذ كل ما يلزم لإعادة الثقة فالثقة كما قال أحد كبار الاقتصاديين هى من أهم عوامل الإنتاج، وأقول أنا حاليا إنها كذلك من أهم عوامل الحيوية والاستقرار السياسى والاجتماعى.

فى المدى العاجل أيضا فأننا لن نتمكن من الخروج من الدائرة المقفلة، المتمثلة فى الوقوع فى أزمة، ثم التفاجؤ والارتباك، ثم إيجاد نوع من الحل، ثم الوقوع فى الأزمة مرة أخرى، هذا الخروج لن يتم إلا بالعناية الشديدة بالخدمات، فانطلاق الاقتصاد المصرى لن يتم برفع النمو بسبب ما، أو دخول استثمار أجنبى كبير فى ظرف خاص، بل يتطلب استدامة، والاستدامة تتطلب دعامات يرتكز عليها الاقتصاد سواء للانطلاق أو الاستناد إليها وقت الأزمات، ولا بد مع الرغبة السياسية من بناء مؤسسى سليم، وأتمنى هنا وجود نائب رئيس وزراء للشئون الاقتصادية، لأن الحكومات بطبيعة الحال تتعارض فيها المصالح، بين وزارة وأخرى، فوزير المالية، مثلًا، يريد تقليل الإنفاق، ووزير التجارة يريد زيادة دعم الصادرات، ومن أجل معالجة تضارب المصالح كنت أتصور مع تعيين نائبين لرئيس الوزراء إضافة ثالث يكون نائبًا للشئون الاقتصادية، يختار منطقيا من المجموعة الاقتصادية، لكن يجب أن يكون من بين الأقل تعرضًا للمصالح المتعارضة مع آخرين.

أخيرا فإن الحل الأسرع لمصر هو العناية بتصدير الخدمات، لأن ما يطلق عليه التصنيع، أو توطين الصناعة، والدخول فى سلاسل الإمداد العالمية، سيأخذ وقتًا طويلًا ربما يصل لعقود، أما الخدمات فتوجد لمصر مزايا نسبية فى بعضها مثل الخدمات المالية، والتكنولوجية، والنقل، واللوجستيات، والسياحة، تجعل هناك فرصة قوية لمصر، فى الإقليم كبداية، فالخدمات أصبحت من الضرورات الأساسية لكل قطاع، وهى تمثل جزءا كبيرا من تكلفة أى منتج، وتنشيط الخدمات سيؤدى بدوره إلى جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، المطلوبة بشدة لغلق الفجوة بين الادخار المحلى والاستثمار، وتتيح الاتفاقيات الموقعة بين مصر والدول الإفريقية أو العربية أو الاتحاد الأوروبى، مساحة حركة يمكن البناء عليها.

الدكتور أحمد غنيم أستاذ الاقتصاد بـ«جامعة القاهرة»: خرجنا من العناية المركزة واقتصادنا مازال فى موقف صعب .. حوارات الأسئلة السبعة (الحلقة الحادية عشرة)

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights