حققت روسيا نصرها الظاهر على 54 دولة واجهتها فى الحرب الهجينة ..
عبد الحليم قنديل
ربما يدخل الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” فى نوبة هلوسة جديدة على جبهة حرب أوكرانيا ، آخر تصريحاته بالخصوص ، أنه قد يلتقى الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى”على هامش الانعقاد السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة ، وبهدف إقناع “زيلينسكى” بالفرصة الأخيرة لوقف الحرب ، و”عقد صفقة” مرضية لروسيا وزعيمها “فلاديمير بوتين” ، وكان “ترامب” التقى “بوتين” فى قمة “ألاسكا” 15 أغسطس 2025 ، وبدا “ترامب” وقتها مقتنعا بوجهة نظر “بوتين” ، الذى رفض مساعى البدء بوقف إطلاق النار ، وطلب التوصل إلى اتفاق سلام شامل أولا ، وكان المفهوم وقتها ولا يزال ، أن “بوتين” يطلب أولا تسليما من أوكرانيا والغرب بحقائق الواقع على الأرض ، وضم المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون) مع شبه جزيرة القرم نهائيا إلى روسيا ، وهو ما أطلق عليه “ترامب” وقتها خطة “تبادل الأراضى” ، أى أن تخرج القوات الأوكرانية من منطقة تبقت بيدها فى غرب مقاطعة “دونيتسك” ، ومقابل أن يعطى “بوتين” لأوكرانيا قطعا من مساحات إضافية تسيطر عليها روسيا فى مقاطعات “خاركيف” و”سومى” و”دنيبرو بتروفسك” ، وعقب عودته من قمة “ألاسكا” التى عدتها الصحف الأمريكية الكبرى انتصارا خالصا للرئيس الروسى ، راح “ترامب” يجتمع بالقادة الأوروبيين مع “زيلينسكى” فى البيت الأبيض ، ويتركهم فى انتظاره لإجراء مكالمة ليلية مطولة مع “بوتين” ، عاد بعدها “ترامب” إلى ضيوفه الذين جلسوا أمامه كأطفال حضانة ، وأخبرهم أن الرئيس الروسى وافق على عقد قمة مع الرئيس الأوكرانى خلال أسبوعين ، وهو ما لم يحدث إلى اليوم ، وأغلب الظن أنه لن يحدث قريبا .
ولم يكن مفاجئا مع توالى الأيام والأسابيع ، أن يعود “ترامب” إلى إحباطه الدورى وخيبة أمله فى وعود “بوتين” ، الذى واصل تلاعبه بأعصاب “ترامب” والقادة الأوروبيين معا ، وبهدف كسب الوقت لحملته الحربية ، ونقل الخلافات إلى داخل المعسكر الغربى وحلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، ولجأت القيادة الروسية إلى تصرفات تكتيكية مدروسة ، فلم يعلن قصر “الكرملين” أبدا عن رفض “بوتين” لفكرة عقد القمة مع “زيلينسكى” و”ترامب” معه ، واقترح بعد نفاد مهلة الأسبوعين ، أن يلتقى “بوتين” مع “زيلينسكى” فى موسكو ، وكان مفهوما أن يعلن “زيلينسكى” رفضه عقد اللقاء فى عاصمة عدوه ، فيما انهمك القادة الأوروبيون المنخرطون فيما يسمى “تحالف الراغبين” ، وهى التسمية ذات الإيحاءات الحميمية لا السياسية ، انهمك (الراغبون) فى بحث تفاصيل ما أسموه “ضمانات أمنية” لأوكرانيا بعد التوصل لاتفاق السلام ، وكانت ردود موسكو الضمنية ظاهرة المغزى الحازم ، فروسيا ترفض أى وجود لقوات من دول حلف “الناتو” وحدها فى أوكرانيا ، وتعدها تحايلا من باب خلفى على تعهد “ترامب” بعدم ضم أوكرانيا أبدا لحلف الأطلنطى ، وهو ما جعل “ترامب” باردا فى طريقة تفاعله مع الحلفاء الأوروبيين ، الذين طالبوا “واشنطن ” بالمشاركة الجدية الحامية فى الضمانات إياها ، ثم تفاقمت خلافات الأوروبيين بشأن فكرة الضمانات المطروحة وحدودها وقواتها والتزاماتها ، ثم عاد (الراغبون) إلى المربع الأول ، واكتفوا بدفع مئات مليارات الدولارات واليوروهات ، وبتدفقات السلاح الأوروبى إلى الميدان الأوكرانى .
وكان نجاح “بوتين” ظاهرا فى تفكيك التحالف الغربى ، وهو ما دفعه إلى تصعيد محسوب فى سياسة حافة الهاوية ، ودخلت عشرات من المسيرات الروسية إلى سماء “بولندا” غرب أوكرانيا ، ثم إلى سماء رومانيا المجاورة ، وإن أنكرت موسكو أنها فعلت ، وبما استثار ردود فعل غاضبة من أعضاء “الناتو” الأوروبيين ، الذين طلبوا كالعادة نجدة من واشنطن ، ولم تكن من استجابة محسوسة سوى بتحليق بعض المقاتلات الفرنسية وغيرها فى سماء “بولندا” ، وإعلان “الناتو” عن تنفيذ خطة يسميها “الحارس الشرقى” ، التى لم تكن سوى تظاهرا عسكريا خاليا من المعنى والتأثير الفعلى ، ودون التورط فى فرض منطقة حظر جوى غرب أوكرانيا تستفز روسيا ، وبدت التحركات الغربية المحدودة كرد باهت على مناورة عسكرية كبرى دارت فى أراضى بيلاروسيا المجاورة لبولندا ، شاركت فيها القوات الروسية مع رفيقتها البيلاروسية شبه المندمجة فى الكيان العسكرى الروسى ، وحملت المناورة اسم “الغرب 2025” ، وبدت المناورة كأنها تحاكى حربا من حول “ممر سوالكى” ، وهو خط سكك حديدية على حدود “بولندا” و”ليتوانيا” عضوتى حلف “الناتو” ، ويصل “ممر سوالكى” الحيوى بين البر الروسى الرئيسى ومقاطعة “كالينينجراد” الروسية شمال “بحر البلطيق” ، التى كانت فيما مضى تابعة لأراضى ألمانيا ، قبل أن تقتطعها روسيا فى الزمن السوفيتى مع نهايات الحرب العالمية الثانية ، والمقاطعة هائلة الأهمية فى موازين القوة بين روسيا وحلف “الناتو” بعد توسعه شرقا ، وتبدو “كالينينجراد” على الخرائط كأنها خنجر روسى مغروس فى قلب الغرب ، وتحتفظ فيها روسيا بقواعد عسكرية وبميناء عسكرى وبمخزونات ضخمة من الأسلحة والصواريخ النووية ، وفى العقيدة الروسية المعمول بها ، فإن أى تهديد عسكرى لممر “سوالكى” يعنى فتح الباب لإشعال حرب نووية عالمية ، وهو ما تدركه واشنطن كما موسكو ، اللذان يريدان تجنب حرب نووية تهدد بإفناء العالم كله 14 مرة على الأقل ، وهذا هو المعنى المخيف لنشوب حرب عالمية ثالثة .
وكما تبدو واشنطن مترددة وراغبة فى لجم التصعيد العسكرى مع روسيا المتحفزة ، فإن الإدارة الأمريكية ، و”ترامب” بالذات ، لا يبدو راغبا بالمشاركة فى فرض عقوبات اقتصادية جديدة على الروس ، رغم مطالبات لحوحة من أوكرانيا و”تحالف الراغبين” والكونجرس الأمريكى نفسه ، فقد جرى فرض 24 ألف عقوبة اقتصادية أوروبية وأمريكية على روسيا ، ولم تؤد تلال العقوبات إلى خنق الاقتصاد الروسى ، بل تحقق العكس بالضبط ، وزاد انتعاش اقتصاد روسيا ، وتضاعف إنتاجها الحربى مرات ، و”ترامب” ممن يعتقدون أن العقوبات ضد روسيا عديمة الجدوى ، وقال ذات مرة قريبة ، أن الروس ماكرون وبارعون فى تجنب آثار العقوبات ، وربما لذلك ماطل ويماطل فى التجاوب مع مطالب فرض المزيد من العقوبات ، ووضع شروطا تعجيزية للأوروبيين وأعضاء “الناتو” عموما ، وطالبهم بفرض رسوم جمركية تصل لمئة بالمئة على الواردات من أصدقاء روسيا ، وعلى الصين والهند والبرازيل بالذات ، كما طالبهم بوقف استيراد البترول والغاز الطبيعى الروسى ، إما مباشرة أو عبر طرف ثالث ، وهو طلب تعجيزى لكثير من الأوروبيين والأطلنطيين ، فدول مثل “تركيا” و”المجر” و”سلوفاكيا” تعتمد كثيرا على واردات الطاقة الروسية الأرخص سعرا ، فوق أن الحروب الجمركية مع الصين والهند تهدد بتدمير أوسع لاقتصادات أوروبا المعانية ، و”ترامب” يعرف أن المعنيين لن يقبلوا شروطه المتعسفة طبعا ، ويتخذ من رفضهم تكئة لتبرير تقاعسه عن فرض عقوبات جديدة ضد روسيا ، فيما يبدو “بوتين” سعيدا بمنجزاته فى خطة تفكيك التحالف الغربى ، ويثق بالفشل الأكيد لمحاولات خنق روسيا ، التى صارت تتمتع بعلاقات أوثق مع الصاعدين الجدد على خرائط الاقتصاد العالمى ، ومع الهند وقبلها الصين ، التى تتقدم بثبات إلى عرش العالم فى الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا الأعظم تطورا .
وربما لم يعد من عاقل يجادل فى مغزى وقائع الميدان الأوكرانى ، فقد حققت روسيا نصرها الظاهر على 54 دولة واجهتها فى الحرب الهجينة ، وأعادت إثبات القاعدة العامة السارية فى حروب روسيا الوجودية ، وهى أن الروس ينهزمون مرات قبل الانتصار النهائى ، وهكذا كان الحال فى المفاصل الكبرى ، من حرب “نابليون” على روسيا أوائل القرن التاسع عشر ، وإلى حملة “بارباروسا” الهتلرية فى أربعينيات القرن العشرين ، وهو ما عادت بعض ملامحه للظهور مجددا فى الحرب الجارية المتصلة من نحو أربع سنوات ، التى يطلق عليها “بوتين” تسمية الحملة العسكرية الخاصة ، ودونما اضطرار لإعلان حالة طوارئ أو التعبئة العامة بنسبة تتجاوز 1% لا غير ، وجرت فى الحرب تراجعات وانتكاسات روسية موقوتة المدى ، وصلت فى ذروتها لاحتلال ألف كيلومتر مربع من مقاطعة “كورسك” الروسية على مدى شهور ، إضافة لغارات المسيرات الأوكرانية على قواعد القاذفات بعيدة المدى ومصافى البترول الروسية ، لكن موسكو أثبتت مقدرة لا تنفد على التحمل ، ثم استئناف المبادرة فى الميدان من جديد ، وكان اللافت فى وعى وذكاء “بوتين” ، أنه جعل من حرب أوكرانيا حدثا ملتصقا بحركة التحول من عالم القطبية الأمريكية الوحيدة إلى العالم متعدد الأقطاب ، ووضع روسيا فى قلب التحول الذى تقوده الصين منذ عقود ، وجاءت حرب أوكرانيا كاشفة لا منشئة لملامحه ، التى تكاثرت أماراتها فى شرق العالم وجنوبه ، وتكاد لا تستثنى سوى غالب أفريقيا وعالمنا العربى ، الذى خرج من حساب التاريخ المتحول قبل نصف قرن ، ولم تكن دوله طرفا فعالا فى قفزات العلم والإنتاج والتصنيع والتكنولوجيا والتجدد الحضارى الذاتى لا المستعارة قشوره ، ومن ثم سقطنا فى الثقب الأسود ، وفى ظلمات الاستعباد الأمريكى “الإسرائيلى” ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا بنا وبهم .