مصر30/6

“عبدالحليم قنديل” يكتب : هوامش على قصف قطر ..

وما جرى فى قطر يقبل التكرار على أراضى الدول العربية الأخرى ..

      حجم المخفى أكبر بكثير مما هو معلن عن عملية قصف طائرات الاحتلال لمكاتب “حماس” فى الدوحة ، يكفى أن تعلم ـ مثلا ـ ما فعله الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” مع تنفيذ الضربة “الإسرائيلية” ، ذهب “ترامب” مع نائبه والوزراء الكبار إلى احتفال بمطعم فى واشنطن ، ولم يعكر صفو الاحتفال سوى عدد من النشطاء الأمريكيين المؤيدين للقضية الفلسطينية ، اقتحموا المطعم ورفعوا أعلام فلسطين ، وراحوا يهتفون ويصرخون “الحرية لفلسطين” و”ترامب هتلر عصرنا” ، فيما راح “ترامب” ينظر ساخرا للنشطاء ، بينما قوات الأمن تلقى بهم إلى خارج مطعم الاحتفال ، وقد لا تحتاج إلى كثير ولا قليل من التفكير ، حتى تدرك أن انتعاش “ترامب” وقتها واحتفاله المبكر ، كان وراؤه ظن غالب عليه ، أن العملية التى نسقها مع “بنيامين نتنياهو” وجيشه ، سوف تحقق هدفها بالضبط ، وسوف تنتهى إلى اغتيال كل أعضاء وفد “حماس” المفاوض ، وعلى رأسهم “خليل الحية” رئيس المكتب السياسى لحركة “حماس” فى غزة ، وهو ما أوحت به تصريحات “نتنياهو” المتفاخرة الأولى عقب العملية ، وقد حفلت بإشارات متعجرفة عن مدى الدقة البالغة لسلاح الجو “الإسرائيلى” . 

    وقد شاءت عناية الله ، أن تفشل العملية “الإسرائيلية” المتفق عليها مع واشنطن ، وأن ينجو قادة “حماس” كما قالت الحركة فى بيان رسمى عاجل ، وكان الفشل ظاهرا فى تصريحات “إسرائيلية” تالية ، كان أولها كلام سفير “إسرائيل” فى واشنطن “يحيئيل لايتر” ، الذى قال لقناة “فوكس نيوز” الأمريكية ، أنه “إذا كنا لم نقض على قيادة حماس هذه المرة فسنصل إليهم فى المرة القادمة” ، وهو ما يكشف خواء زعم “ترامب” بعد الفشل ، وقوله أن هذه العملية لن تتكرر ، وتطميناته الفارغة لقيادة قطر ، التى تعد فى التصور الأمريكى المعلن حليفا رئيسيا لواشنطن من خارج حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، وعلى أراضيها قاعدة “العيديد” أكبر قواعد أمريكا الجوية خارج حدودها ، ولم يطلق منها صاروخ اعتراضى واحد ردا على الغارات “الإسرائيلية” ، كما حدث ـ مثلا ـ وقت الضربة الصاروخية الإيرانية الشهيرة ، بينما إدعت إدارة “ترامب” بأثر رجعى ، أنها لم تكن تعلم بنية ولا وقت تنفيذ الضربة “الإسرائيلية” ، وأنها علمت فقط عند التنفيذ ، وطلب “ترامب” من مبعوثه “ستيف ويتكوف” إبلاغ القطريين للتحذير ، وهو ما نفاه رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطرى “الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثانى” ، وقال بوضوح ، أن الدوحة لم تتبلغ بالتنبيه الأمريكى إلا بعد عشر دقائق من حدوث انفجارات المبانى السكنية المستهدفة ، وبعد أن كان الخبر انتشر فى الدنيا كلها ، وأى مبتدئ فى الجغرافيا ، يعرف أن الدوحة تبعد عن أقرب قاعدة جوية “إسرائيلية” بما يزيد على 2200 كيلومترا ، وأن قطر تفصلها عن كيان الاحتلال أربع دول عربية ، طارت فوقها القاذفات “الإسرائيلية” وتزودت بالوقود جوا ، وإذا سلمنا جدلا بأن “رادارات” جيوش هذه الدول لم تلتقط ولا رصدت ، فماذا عن نحو ستين قاعدة ومنشأة عسكرية أمريكية فى المنطقة الفاصلة ، وفى داخل فلسطين المحتلة ذاتها ؟ !! .

   وفوق هذه الألغاز وخفاياها الظاهرة المغزى ، فإن العلم الأمريكى المسبق بالضربة “الإسرائيلية” لا يبدو موضعا لشك عند عاقل ، فقبل الضربة بأيام ، كان “ترامب” قد أعلن عن ما أسماه صفقته لوقف الحرب فى “غزة” ، وادعى أنها ولدت فى رأسه “البرتقالى” بينما كان يلعب “الجولف” مع “ويتكوف” ، وأضاف واثقا أن “نتنياهو” يوافق عليها ، ولم يكن ذلك إلا خداعا بدائيا ، فالصفقة فى الأصل هى اقتراح من “نتنياهو” نفسه ، نقله صفيه ووزيره للشئون الاستراتيجية “رون ديرمر” إلى “ويتكوف” ، ونصح بأن يعلنها “ترامب” بنفسه وباسمه ، وأن يطلب من “حماس” الإفراج فورا عن كل الأسرى والرهائن “الإسرائيليين” أحياء وأمواتا ، ودونما مقابل غير إطلاق سراح آلاف من الأسرى الفلسطينيين ، والوقف المؤقت لعملية اجتياح واحتلال وتدمير مدينة “غزة” ، والبدء فى مفاوضات حول الشروط النهائية ، وأولها نزع سلاح “حماس” ونفى قادتها ، مع تعليق الانسحاب “الإسرائيلى” من غزة على شرط تشكيل حكومة فلسطينية جديدة تضمن الأمن الكامل لكيان الاحتلال ، وكان بديهيا أن تتحفظ حركة “حماس” ، وأن تطلب ضمانات أكبر من وعد شفهى يقطعه “ترامب” (!) ، وكان الرئيس الأمريكى يعلم بذلك طبعا ، ووجه علنا ما أسماه “التحذير الأخير” لحركة “حماس” ، وكان يعلم ـ طبعا ـ بعقد اجتماع لوفد “حماس” المفاوض فى الدوحة لمناقشة الصفقة ، ويبدو ظاهرا من خط سير الحوادث ، أنه أراد تدمير قيادة “حماس” عقابا لها على موقفها المعاند ، بعد أن زين له “نتنياهو” عملية اغتيال “قادة حماس” المفاوضين جميعا ، فتم تنفيذ الضربة المتفق عليها ، وعلى أن يحتفظ “ترامب” بمسافة صورية تفصله عن التفاصيل ، يهنئ بطله “نتنياهو” إذا نجحت الضربة كما كان يتوقع ، أو أن يفتعل قلقا وحزنا إذا فشلت ، وهذا ما جرى بالضبط ، فبعد أن قالت مصادر “إسرائيلية” أنها حصلت على ضوء أخضر أمريكى لتنفيذ الضربة فور وقوعها ، عاد “نتنياهو” مع تبين الفشل إلى نغمة أخرى ، زعم فيها أن العملية كانت “إسرائيلية” مستقلة تماما (!) . 

  ولم ينكر “ترامب” أبدا ، ولا أنكر المتحدثون باسمه ، أنه يريد اغتيال قادة “حماس” جميعا ، وأيا ما كانت محال إقاماتهم أو نشاطاتهم ، وبدا ذلك ظاهرا منصوصا عليه فى بيانات البيت الأبيض بعد وقوع الضربة ، بينما تصور “ترامب” كعادته المبالغة فى قدراته الشخصية ، أن بوسعه احتواء آثار ما جرى عند “قطر” وغيرها من حلفاء الخليج ، الذين قدموا له منحا واستثمارات بتريليونات الدولارات ، وقدم هو ـ بالمقابل ـ وعودا فارغة بالحماية ، تبين أنها محض سراب ، خصوصا حين يتعلق الأمر بالكيان “الإسرائيلى” ، الذى من حقه ـ حسب “ترامب” ـ أن يصول ويجول فى المنطقة كلها ، وأن يفرض سيادته على الجميع أعداء وأصدقاء ، وقد كانت الطائرات “الإسرائيلية” تضرب فى “غزة” ولبنان وسوريا وتونس واليمن فى نفس يوم العدوان على قطر ، وهو بعض ما دفع “الشيخ محمد بن عبد الرحمن” إلى وصف “نتنياهو” بأنه “لاعب مارق” ، لايريد ـ فقط ـ إعادة تشكيل ما يسميه “الشرق الأوسط الجديد” ، بل يريد “إعادة تشكيل منطقة الخليج” أيضا ، وقد تمت الضربة “الإسرائيلية” بعلم مسبق أكيد من واشنطن ، ونقلت “واشنطن بوست” عن مسئول أمريكى أن “إسرائيل أخطرت الجيش الأمريكى ببعض خطط العمل العسكرى قبل الضربة” ، وإن راوغ المسئول بالقول أن “الإخطار كان غامضا ولم يذكر أهدافا أو مواقع” ، فيما راح “ترامب” نفسه يغسل يديه ، وقال على منصته “تروث سوشيال” ، أن “الهجوم على قطر قرار اتخذه نتنياهو ، وليس لى دخل به” ، وإن عاد “ترامب” فى التغريدة نفسها ، وعلى طريقة “يكاد المريب يقول خذونى” ، وأضاف نصا “أن الهجوم على الدوحة يمكن فى اعتقادى أن يكون بمثابة فرصة للسلام”. 

    وما جرى فى قطر ، يقبل التكرار طبعا على أراضى الدول العربية الأخرى ، وحتى فى عواصم الخليج الأوثق صلة بواشنطن ، وقد لا تعنى بيانات الاستنكار والإدانة والتضامن شيئا كثيرا ، اللهم إلا إذا توافرت إرادة سياسية غير منظورة ، تراجع أوضاع النظم كلها ، وتستعيد الحقائق الأصلية الظاهرة لكل ذى عينين ، فالكيان “الإسرائيلى” لايرى سيادة لدول ولا حرمة لحدود عربية ، وقناعته الراهنة ، أن مبدأ السيادة محجوز فى المنطقة للكيان وحده ، وأن السلام الموهوم مع الكيان لا يحمى أحدا من عقابه ، وأن يد “إسرائيل” هى ذاتها يد أمريكا ، وأن “المتغطى بالأمريكان عريان” ، وهذه هى الحقيقة الكبرى الباقية قبل ضرب “قطر” وبعده ، فاتفاقات السلام والتطبيع القائمة ليست سوى صكوك استسلام ، والتعاهد “الإبراهيمى” لا يوفر أمانا لأحد ، والكل سواء على حبل المقصلة “الإسرائيلية” الأمريكية .

    وفى وهج انفجارات النار التى تجتاح المنطقة ، لا يصح إلا ما كان ويبقى صحيحا فى مطلق الأحوال ، وأوله أن المقاومة وحدها هى الفرقة “الناجية” من نار الدنيا وعذاب الآخرة ، وقد تضرب المقاومة هنا أو هناك ، لكنها تبقى الأمل الوحيد فى يقظة الأمة المهانة واسترداد كرامتها ، وقد أفلت عدد من قادة المقاومة بالخارج من مصير الاغتيال فى الضربة الأخيرة ، لكن استشهاد القادة عموما ، لا يعنى أبدا نهاية المقاومة ، وقد استشهد عشرات القادة الكبار ، وكانت الدماء الزكية وقودا يلهب المقاومة ، ويدفع بأجيالها الشابة إلى القتال بعزيمة لا تلين ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا ، ويدرك الغافلون أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها ، وأن الجيوش التى تترك أسلحتها للصدأ ، سوف تدهمها الحروب من حيث لا تحتسب .

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
Verified by MonsterInsights