الرئيس الصيني حذر الغرب من العودة إلى عقلية الحرب الباردة ..
عبد الحليم قنديل
العرض العسكرى الصينى الأخير هو الأكبر من نوعه لدولة منفردة فى العالم المعاصر، كان العرض مزيجا مبهراً من استعراض القوة والدقة التنظيمية والإمتياز التكنولوجى ، وخصوصا حين تقارنه بهرج ومرج وبؤس عرض عسكرى أمريكى أقيم قبل شهور ، العرض الأمريكى المضطرب كان فى مناسبة عيد الميلاد التاسع والسبعين للرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” ، بينما العرض الصينى يقام منذ عشر سنوات فى ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية ، ووافق هذه المرة الذكرى الثمانين لاندحار اليابان ، وحضره الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” ، الذى كانت لبلاده ـ فى الزمن السوفيتى ـ أولوية السبق لدحر ألمانيا النازية واقتحام “برلين” ، بينما تغيب أو جرى تغييب الغرب كله عن الإحتفاء الصينى بذكرى النصر العالمى ، رغم أن أمريكا بالذات ، هى التى أنهت الحرب ضد اليابان بضربة قنابلها الذرية على “هيروشيما” و”نجازاكى” ، وكان لافتا بشدة ، أن الرئيس الصينى “شى جين بينج” حذر الغرب من العودة إلى عقلية الحرب الباردة ، وقال بوضوح أن العالم الراهن أمام اختيار حاسم بين الحرب أو السلم ، وأكد أن الصين صارت قوة لا يمكن وقفها ، وبدت الإيحاءات ظاهرة فى التصوير المتقن لاصطفاف وتحريك عشرات آلاف الجنود فى ميدان “تيانا نمن” أو “السلام السماوى” أكبر ميادين بكين والدنيا كلها .
وعلى الجانب الآخر من العالم ، عبر “ترامب” عن قلقه المفزوع مما رأى ، ليس فقط من مشاهد طائرات الصين المقاتلة الأحدث من الجيلين الخامس والسادس ، وسلاسل طائرات “جى 10” إلى “جى 20″ و”جى 31” ، بل من صواريخ “واى جى” المعروفة بلقب “قاتلة حاملات الطائرات” فى أعالى البحار ، ومن الصواريخ النووية العابرة للقارات الأسرع من الصوت بعشرات المرات ، ومن نظم الدفاع الفضائى المصممة لإسقاط الأقمار الصناعية العسكرية ، ومن المركبات البحرية المسيرة الأضخم فى العالم ، ومن الروبوتات المقاتلة بأحدث نظم الذكاء الاصطناعى ، ولم تكن الأوصاف مجرد افتراضات نظرية أو تخيلية ، فقد أثبتت المقاتلات الصينية تفوقها الحاسم فى الميدان على نظائرها الغربية ، على نحو ما جرى فى القتال العابر لأيام بين الهند وباكستان ، الذى حققت فيه “إسلام أباد” تفوقا جويا مذهلاً على جارتها الهند الأضخم بمراحل ، ورغم أن ما جرى عسكرياً كان فى خلفية الصورة ، إلا أن الهند وباكستان معا كانتا من ضيوف الرئيس الصينى فى العرض العسكرى ، وقبله مباشرة فى عضوية قمة “منظمة شنجهاى للتعاون” ، غير أن الأكثر إدهاشا للأمريكيين والأوروبيين عموما ، كان الحضور والمشاركة النشيطة المنطلقة لرئيس الوزراء الهندى “ناريندرا مودى” ، وحرصه على إبداء الحفاوة وتبادل الابتسامات مع الرئيس الصينى ، وجولاته المطولة فى سيارة الرئيس الروسى ، والإعلان عن تفاهمات صينية هندية حول مشاكل المياه والحدود فى “التبت” ، وهو ما يهدد بتقويض التزامات “مودى” السابقة مع الغرب ، وإلى حد إعتبار الهند شريكا استراتيجياً للغرب فى منطقة المحيطين الهادى والهندى ، وهو ما يبدو أنه ذهب مع الريح فى قمة “منظمة شنجهاى” ، فقد تردد أن “مودى” يرفض الرد على مكالمات الرئيس الأمريكى “ترامب” ، وبالذات بعد فرض الأخير رسوماً جمركية أمريكية على صادرات الهند بنسبة 50% ، ربما على سبيل العقاب للهند ، وردعا لها عن الإستمرار مع الصين فى إستيراد البترول والغاز الطبيعى الروسى بأسعار تفضيلية ، وكان إجراء “ترامب” موضع استهجان من الهند ، التى تضع مصالحها فوق كل اعتبار آخر .
وهكذا كانت صدمة “ترامب” متعددة الوجوه ، فقمة منظمة “شنجهاى” والعرض العسكرى الصينى بعدها ، كانتا معا أقوى إشارة على تقدم الصين لصياغة عالم جديد متعدد الأقطاب ، يتناقص فيه الإعتماد على الدولار الأمريكى فى التسويات التجارية العالمية ، وتجتمع فيه الأقطاب الصاعدة على عولمة تجارية أكثر عدالة ، يبرز فيها وزن الصين الشريك التجارى الأول لأغلب دول العالم ، فيما تنزوى أمريكا تدريجيا من وراء أسوار الحماية ومضاعفة الرسوم الجمركية ، وهى العصا التى يعتمد عليها “ترامب” لردع صعود الآخرين ، ولم تفلح مع الاقتصاد الصينى الأعظم بإنتاجيته وتنافسيته الفائقة ، وبمقدرة السياسة الصينية الهادئة المدروسة على إزالة الحواجز ، وخلق أسواق جديدة ، بما فيها سوق الهند جارة الصين ، وبينهما ما صنع التاريخ من مشكلات ، لم تحل دون الزيادة المطردة فى التجارة بينهما ، فالصين هى الشريك التجارى الأول للهند منذ سنوات بعيدة ، وهى الشريك التجارى الأول لباكستان غريمة الهند تاريخيا ، بينما يفشل “ترامب” فى ردع الصين أو عزلها تجارياً ، ويذهب حصاد قراراته الهوجاء إلى حضن الصين ، التى تضاعف تبادلها التجارى وتعاونها العسكرى مع روسيا ، فقد زار الرئيس الروسى جارته الصين لأكثر من عشرين مرة إلى اليوم ، وكانت الصين سنداً أساسيا لروسيا فى حربها مع الغرب بالميدان الأوكرانى ، وكانت المساندة الصينية القوية لروسيا عنصرا حاسماً فى صمود موسكو ، وفى صقل مقدرتها على تجاوز آثار 24 ألف عقوبة اقتصادية غربية فرضت على موسكو ، وتصورت إدارة “ترامب” بأدائها العشوائى البهلوانى ، أن بوسع “واشنطن” فك صلات العروة الوثقى بين موسكو وبكين ، وأن توثيق صلات “ترامب” مع “بوتين” قد يساعد فى عزل “بكين” ، وهو ما حدث عكسه بالضبط ، وبما دفع “ترامب” إلى إعلان إحباطه الدورى لرابع مرة من الرئيس الروسى ، ثم جاء الانقلاب الهندى على “ترامب” ، والتقارب المضاف بين نيودلهى وبكين ، ونفى رئيس الوزراء الهندى لدور يدعيه “ترامب” فى وقف الاقتتال الهندى مع باكستان ، ورفض “مودى” طلب “ترامب” ترشيح الأخير لجائزة “نوبل” للسلام ، جاءت هذه التطورات كلها لتصدم ترامب بقسوة ، وتخرجه عن شعوره العصبى المتقلب على الدوام .
وبالطبع ، فقد لا يصح تجاهل الحقائق الصلبة فى الوضع العالمى الراهن ، فلا تزال أمريكا تحتفظ بموقع الصدارة رقمياً فى الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا ، لكن ثبات واشنطن على كرسى العرش العالمى ، يبدو مشكوكا فى أمره ، والسبب ببساطة فى التقدم السريع لأطراف أخرى ، كانت الصين ولا تزال أهمها ، وربما تتعادل الصين مع أمريكا فى سنوات قليلة مقبلة بحساب الأرقام الدولارية المجردة ، وإن كانت الصين تجاوزت أمريكا اقتصاديا بحساب تعادل القوى الشرائية ، ثم أن الاقتصاد الصينى يتمتع بفوائض تريليونية هائلة ، بينما يرزح الاقتصاد الأمريكى تحت ضغط دين عام فلكى يقارب نحو 35 تريليون دولار ، وتتراجع الميزة النسبية الأهم لأمريكا فى مجالات التكنولوجيا الأحدث ، مقابل سعى الصين الحثيث المتسارع المخطط لسد الفجوة التكنولوجية المتضائلة ، وفى مجال السلاح ، تنفق أمريكا سنويا نحو 900 مليار دولار ، بينما الإنفاق الصينى السنوى فى حدود 250 مليار دولار ، لكن الفوارق فى نواتج الإنفاق هائلة ، فالمعدات الصينية تصنع بنصف تكلفة نظيرتها الأمريكية ، والقواعد الأمريكية فى الخارج (800 قاعدة) تلتهم شطرا كبيرا من الإنفاق الأمريكى العسكرى ، بينما الإنفاق الصينى يذهب فى غالبه لتطوير الصناعة العسكرية ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن فجوة الإنفاق العسكرى السنوى بين البلدين ، لا تعنى وجود فجوة مناظرة فى درجة الاستعداد والتجهيز العسكرى المتطور ، أضف إلى ذلك ، ما تملكه الصين بفوائضها المالية من قدرة على مضاعفة الإنفاق العسكرى ، مع ما تمتاز به الصين من سمعة دولية مسالمة ، ومن امتناع محسوب عن المشاركة فى التدخل أو استعباد الآخرين ، وحرصها على شفع نفل سلاحها بنقل التكنولوجيا ، وهو ما يسهم فى مضاعفة جاذبية وإغراء السلاح الصينى ، تماما كما كان الصعود الصينى الأسطورى فى مجالات الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا المدنية .
وبالجملة ، يبدو المثال الصينى وكأنه يصنع العالم الجديد حقا ، وليس العالم الموزع بين أسياد وعبيد ، فقد كانت الصين نفسها ، وعلى مدى قرون ، كانت ضحية الاستعباد الغربى ، لكنها نهضت من رماد القرون ، وحققت فى الخمسة عقود الأخيرة ، أكثر مما حققه الغرب كله فى خمسة قرون منذ سقوط “غرناطة” واكتشاف الأمريكتين سنة 1492 ، وها هى الصين تستعيد بهاء الشرق القديم ، وتتقدم الصفوف كقائد مقتدر للشرق والجنوب العالميين ، وتصنع “عولمة الضد” المناهضة للعولمة الأمريكية المتداعية موضوعيا ، وإن كانت الأخيرة لا تزال تحارب بشراسة وحشية فى منطقتنا بالذات ، وتجد فى أغلب دولها صورا مثالية للعبيد المطيعين ، ولا يبدو ذلك غريبا ولا مفاجئا ، فقد كنا ولا نزال فى غربة عن تطورات العالم خلال نصف القرن الأخير ، ولم نكن طرفا شريكا فى عوالم العلم والإنتاج والتصنيع والتكنولوجيا الأحدث عسكريا ومدنيا ، وارتضى الحكام فينا أوضاع الهوان والمذلة ، وضاعت منا بوصلة التاريخ الذى تركنا من ورائه ، وحتى إشعار آخر قد لا يجئ قريبا ، اللهم إلا إذا جرت معجزة إفاقة ، تنتشلنا من فوات الوقت ، وتنتصر لبركة دم الشهداء والمعذبين على جبهة الجرح الفلسطينى .