“عايدي جمعة” يكتب: التشكيل الفني في ديوان “خبرني العندليب”
يعتمد التشكيل الفني في ديوان “خبرني العندليب” للشاعرة المصرية آيات عبد المنعم على بعض التقنيات الفنية.
ويتشكل عنوان هذا الديوان من جملة فعلية فعلها ماض، وقد جاء الفعل الماضي فيها مضعفا، وجذره اللغوي (خ/ ب/ ر) فيستدعي هذا الفعل الجوانب المعرفية التي تقع في دائرة الإنسان، ونفاجأ بضمير متصل بهذا الفعل هو ياء المتكلم، فنتوقع إنسانا يخبّر الذات الشاعرة بشئ ما، ولكننا نفاجأ بأن من قام بالفعل هو العندليب.
وهنا يقع التداخل بين العوالم، فيتداحل العالم الإنساني مع عالم الطير، ومن المعروف أن العندليب طائر ذو صوت رائع يجذب إليه الأسماع، ويطل في هذا العنوان ثنائية الحبيب / الحبيبة، فالذات الشاعرة تنتمي لعالم الحبيبة من خلال اسمها، في حين يستدعي العندليب صورة الحبيب أو صورة الرجل عموما .كما أن الترتيب الطبيعي للجملة في هذا العنوان به خلخلة، فقد تقدم المفعول به (ياء المتكلم) على الفاعل/ العندليب.
وكان لهذا التقديم والتأخير دوره في حالة التلذذ المعرفي التي تستشعرها الذات الشاعرة حينما خبّرها العندليب، كما كان له دوره في الموسيقى التي نستشعرها ونحن نأخذ راحتنا بنطق كلمة العندليب وما فيها من مد.
ومن هنا فإن هذا العنوان يحمل جاذبية خاصة للمتلقي، لأنه يثير أسئلة بها قوتها الدافعة التي تجعل المتلقي يدخل إلى عالم الديوان، لأن هناك أسئلة ستثار منها:
ما الذي خبره العندليب للذات الشاعرة؟
ومنها: كيف كان ذلك؟
ولماذا خصها العندليب بذلك التخبير؟ ……إلخ.
فإذا غادرنا العنوان لندخل إلى نصوص الديوان فإننا نجد بعض التشكيلات الفنية التي كان لها إسهامها الواضح في رسم ملامحه، وأول ما يلفت النظر هو اتخاذ هذا الديوان من الإيقاع النثري نسقا معتمدا.
ومن المعروف أن قصيدة النثر ذات إيقاع هارب، يستطيع المتلقي أن يقع على بعض ملامحه من خلال حسن إصاخة السمع لتقنيات التكرار، سواء كان تكرار الحروف أو تكرار المقطع أو الكلمات أو الجمل أو غير ذلك، كما ينهض إيقاع الصورة وإيقاع الدلالة بدور كبير في قصيدة النثر.
ويلفت النظر بقوة أيضا تلك العملية المنظمة للاستدعاءات الصوتية التي استمرت فاعلة على مدار قصائد الديوان كلها.
ففي نهاية كل قصيدة، وأحيانا قبل نهايتها، يطالعنا اقتباس صوتي تستدعيه الذات الشاعرة لآخرين، وهذا الاقتباس الصوتي معظمه من الأغاني المعروفة، وقد كان اقتباس مقاطع صوتية لأم كلثوم وفيروز وغيرهما ذا حضور بارز.
وهذا الاقتباس الصوتي مكتوب ببنط أسود عريض في حين كلمات القصيدة مكتوبة ببنط عادي، ودائما ما تشير الذات الشاعرة إلى أصل الاقتباس في الهامش.
وهنا يجد المتلقي عملية تفاعل صوتي في النص الشعري، تجعل القصيدة محملة بأكثر من صوت، مما يكون له إسهامه الكبير في رحابة الدلالة وعمقها، ويحتاج بالتالي من المتلقي أن يتهيأ لاستقبال مسارين أو أكثر من الإنتاج الصوتي: الصوت الأول هو صوت الذات الشاعرة، والصوت الثاني يكون مجدولا من أصوات مختلفة: صوت مبدع كلمات الأغنية، وصوت المطرب والسياق الاجتماعي الذي تتم فيه عملية التلقي للأغنية.
أما عن علاقات المجاورة بين الألفاظ في صوت الذات الشاعرة فإننا نجد تشكيلات فنية لافتة في هذا الجانب، فالديوان محمل بثمرات المجاز الناضجة، وخصوصا الاستعارة فيه، مما جعل فائض المعنى يطل بقوة، ويلفت النظر، وعملية المجاورة لا تصل باللغة إلى الإغراق في العلاقات التي تكرّس للإبهام الدلالي.
وتسجل الجملة الفعلية ذات الفعل المضارع حضورا واضحا في هذا الديوان للشاعرة المصرية آيات عبد المنعم، فيتسرب السرد الملئ بالحركة والحيوية إلى الشعر. تقول في قصيدة الزلل:
أَمُوتُ وُقُوفًاً، وَأَنَا أَتَّكِىءُ عَلَى جِذعِي،
أَستَنِدُ إِلَيَّ، أَبتَغِي دُرُوبًا لا تَعرِفُنِي،
وَأَبتَاعُ هَوَىً لا أَعرِفُهُ،
وَفِي أَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَيكَ!
وفي هذا الديوان أيضا يطل بوضوح توظيف التراث، فنجد حضورا واضحا لتشكيلات تراثية فيه، خصوصا من التراث الديني، حيث نجد بعض التعبيرات الشهيرة في القرآن الكريم تستدعيها الذات الشاعرة، مثل غرابيب سود وغيرها.
وتطل بقوة عبر الديوان ثنائية الحبيب/ الحبيبة، حيث نجد أن الخصوبة التامة والحيوية الدافقة لا تتحققان بغير وجود الحبيب، فتقول:
َلا أُخبِرُكَ كَيفَ أَنَّ حُمرَةَ وَجهِيَ المُتَوَهِّجَةَ هَذِهِ،
وَلَونَ طِلاءِ أَظَافِرِي الصَّارِخَ هَذَا،
وَلَهِيبِ خصرِيَ الَّذِي تُعَانِقُه،
قَد لا يُصبِحُ نَابِضًَا وَلا حَقِيقِيًّا سِوَى بِك.
وَأَنَّ أُنُوثَةً مَا أَلَمَّتْ بِي،
فَأَصبَحتَ تَتَمَلَّكُنِي فِي رِفقَتِكَ أَنتْ.
وهنا تطل بقوة أسطورة الخصب والنماء، تلك الأسطورة التي وجدت تجلياتها الأولى في منطقتنا فوجدنا أسطورة إيزيس وأوزوريس المصرية، وأسطورة تموز وعشتار البابلية، حيث يتم التكريس لاختفاء كل مظاهر الخصوبة بغياب الحبيب، وعودتها بعودته.
كما يطل ملمح آخر من ملامح هذا الديوان، وهو التركيز على التفاصيل الصغيرة، خصوصا تلك التفاصيل الصغيرة الخاصة بعالم المرأة، حيث تتحول هذه التفاصيل الصغيرة إلى طاقة شعرية هائلة على يد الذات الشاعرة. ونظرة في الاقتباس السابق ترينا هذه الحقيقة بوضوح شديد، فنجد حمرة الوجه وطلاء الأظافر الصارخ ولهيب الخصر، وهذه كلها ملامح أنثوية أصيلة استطاعت الذات الشاعرة أن تجدلها في سياق القصيدة فأكسبتها رغم تداوليتها بعدا شعريا عميق الغور.
وإذا كان الحس العاطفي يطل بقوة عبر قصائد هذا الديوان فإن الحس الوطني له ملامح قوية أيضا، وهنا تأتي قضية فلسطين في الصدارة، حيث نجد التفاعل الكبير من الذات الشاعرة مع أحداثها.
تقول في قصيدة ظريف الطول:
إِرثُ أَبِي مُعَلَّقٌ فِي صَدرِ المَنزِلِ:
مِنسَأةٌ، وَمِسبَحَةٌ، المِفتاحُ،
تَأبِينٌ لِلشَّهِيدِ القَادِمِ مِن عُنُقِ اللَّيلِ،
وَلِلعَرُوسِ المُهَاجِرَةِ صَبَاحاً،
طَوَتِ الأَرضَ لأَقصَاهَا،
وَالقَضِيَّةََ، قِلادَةً، وَأقرَاطاً، وَكُوِفيَّةً.
فَقَطْ، لِحُدُودِ الثَّمَانِي وَالأَربَعِينَ
وما يلفت النظر أيضا في قصائد هذا الديوان الذي تطل منه ثنائية الحبيب / الحبيبة أن الحبيبة في الغالب هي المتكلمة في حين نجد أن الحبيب صامت، وهو رغم صمته فإنه يسجل حضورا قويا وذلك من خلال صوت الذات الشاعرة التي لا تكاد تنسى وجود هذا الحبيب لحظة واحدة.
ولكننا أيضا لا نعدم صوت الحبيب المتكلم، في حين نجد الحبيبة صامتة، على نحو ما نجد في قصيدة نظرة:
كُلُّ الأَحلامِ المُمكِنَة
تُشبِهُ الوصُولَ لِمَرفَأِ عَينَيكِ،
وهنا يظهر ملمح آخر من ملامح هذا الديوان للشاعرة المصرية آيات عبد المنعم وهو ملمح الرحلة، ومن المعروف أن الرحلة من النماذج الأصلية التي تحدث عنها كارل غوستاف يونج.
وتطل أيضا استعارة “الحب رحلة”، فالحبيب يخاطب الحبيبة ويجعل من عينيها مرفأ يصل إليه في رحلة حبه اللاهب.
وعلى الرغم من حالة الاستغراق الواضحة في الحب فإن السياق الاجتماعي لا نعدمه عبر قصائد هذا الديوان، فنرى عبر الصور والتراكيب انعكاسا لسياقات اجتماعية تطل من خلال البنية العميقة لقصائد هذا الديوان
* د عايدي علي جمعة
أستاذ الأدب والنقد كلية الإعلام/ جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب.