
يجيب كتاب “أوهام النـُخبة: أو نقد المثقف” للمفكر اللبناني علي حرب.
علي العديد من الأسئلة التي تتعلق بأزمة المثقف والثقافة.
لماذا لم يفلح المثقفون في ترجمة شعاراتهم ؟
لماذا يتحولون إلى مجرد ” باعة للأوهام ” ؟
لماذا لم يتمكنوا من تجديد عالم الفكر وتغيير الواقع ؟
إن النقد هو تحليل للعوائق التي تحول دون أن يكون المفكر مبدعاً في حقول الفكر مـُنتجاً في ميادين المعرفة .
هذه العوائق هي عبارة عن أسئلة عقيمة ، أو ثنائيات مزيفة أو مقولات كثيفة ، أو بداهات محتجبة وكلها أوهام خادعة تحجب الكائن وتطمس المشكلات بقدر ما تنفي الحقيقة وتـُـقصي الذوات .
والأوهام كثيرة، منها وهم النـُخبة:
أعني بهذا الوهم سعي المثقف إلى تنصيب نفسه وصياً على الحرية والثورة ، أو رسولاً للحقيقة والهداية ، أو قائداً للمجتمع والأمة .
ولا يحتاج المرء إلى بيانات لكي يقول بأن هذه المهمة الرسولية الطليعية قد تـُرجمت على الأرض فشلاً ذريعاً وإحباطاً مميتاً .
فالمثقفون حيث سعوا إلى تغيير الواقع من خلال مقولاتهم ، فوجئوا دوماً بما لا يتوقع : لقد طالبوا بالوحدة ، فإذا بالواقع ينتج مزيداً من الفرقة . وناضلوا من أجل الحرية ، فإذا بالحريات تتراجع . وآمنوا بالعلمنة فإذا بالحركات الأصولية تكتسح ساحة الفكر والعمل .
وهكذا يجد المثقف نفسه اليوم أشبه بالمحاصر . وليس السبب في ذلك محاصرة الأنظمة له ، ولا حملات الحركات الأصولية عليه ، كما يتوهم بعض المثقفين . بالعكس ، ما يفسر وضعية الحصار هو نرجسية المثقف وتعامله مع نفسه على نحو نخبوي اصطفائي ، أي اعتقاده بأنه يمثل عقل الأمة أو ضمير المجتمع أو حارس الوعي . إنه صار في المؤخرة بقدر ما اعتقد أنه يقود الأمة ، وتهمش دوره بقدر ما توهم أنه هو الذي يحرر المجتمع من الجهل والتخلف .
وهذا هو ثمن النخبوية : عزلة المثقف عن الناس الذين يدعي قودهم على دروب الحرية أو معارج التقدم . ولا عجب : فمن يغرق في أوهامه ، ينفي نفسه عن العالم . ومن يقع أسير أفكاره ، تحاصره الوقائع .
هذا دأب الذين قدسوا فكرة الحرية : لقد وقعوا ضحيتها بقدر ما جهلوا أمرها . ولذا فهم طالبوا بالحرية ، لكي يمارسوا الاستبداد . وهذا شأن الذين قدسوا العقل ونزهوه عن الخطأ : لقد فاجأهم اللامعقول من حيث لا يحتسبون ، إذ العقل ليس سوى علاقته بلامعقوله ، وحسن إدارته . إن مشكلة المثقف هي في أفكاره لا في مكان آخر ، وأن مأزق النـُخبة يكمن في نخبويتهم بالذات .
وإذا كان البعض يعطي امتيازاً لأهل الفكر على سواهم ، باعتبار أن الإنسان هو كائن ميزته أنه يفكر، فإن عمل الفكر سيف ذو حدين : قد يكون أداة كشف وتنوير ، وقد يكون أداة حجب وتضليل . ولا عجب فالمرء بقدر ما يوغل في التجريد أو يغرق في التفكير، ينسلخ عن الواقع المراد تغييره أو يتناسى الموجود في مورد العلم به . ولهذا فإن صاحب الفكر الحيوي والمتجدد يبقى على قلقه ويقيم في توتره المستمر بين الفكر والحدث ، أو بين النظرية والممارسة . إنه من يحسن صوغ المشكلات لأن مشكلته هي دوماً أفكاره .