“دونالد ترامب” رجل لا يغلق فمه ، ويكذب فى الشهيق وفى الزفير ، وقد فكرت أن أصفه بالكذاب المتسلسل قياسا إلى “القاتل المتسلسل” ، وهو مصطلح يشير فى عالم الجنايات إلى شخص معقد نفسيا أو جنسيا ، يرتكب جرائم قتل متعددة وبذات الطريقة وبفواصل زمنية متفاوتة ، وقد لا تنكشف كل جرائمه حتى بعد إعدامه ، وسرعان ما وجدت أن الوصف مع القياس المذكور ، لا ينطبق بدقة على حالة الرئيس الأمريكى الصاخب دائما ، فهو لا يقتل الحقائق بالتقسيط ، ولا يترك لنفسه وقتا بين كل كذبة وتاليتها ، وإنما يعيش بالكامل فى فقاعة من صنع أوهامه ، وسجله الجنائى معروف ، وقد أدين وقت ترشحه الأخير بالتزوير فى 34 شيك رشوة دفعها لشراء صمت ممثلة إباحية ، ولم يكن له من دفاع إلا أن اتهم الجميع قضاة ومدعين ومحامين ومحلفين بالكذب والتزوير ، والزعم بأنه أنقى من قطرة الثلج ، ولم يعقه ذلك كله عن الفوز برئاسة البيت الأبيض للمرة الثانية ، وربما دفعه الفوز رغم التزوير والتدليس إلى اعتناق الكذب كعقيدة ووصفة نجاح مذهل ، وقد تحدث أخيرا على منبر الانعقاد السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة ، واستغرق خطابه المطول مدة 56 دقيقة كذب فيها 56 مرة على الأقل ، ومع كل كذبة متبجحة ، كان يقول أنه ينطق بالحق وحده ، ويتصرف كالمريب الذى يكاد يقول “خذونى” ، وكاد يقول لقادة وممثلى دول العالم الحاضرين “أنا ربكم الأعلى” والمبعوث هداية للعالمين الضالين . ولو كان مخترع “الديناميت” عالم الكيمياء السويدى الشهير “ألفرد نوبل” علم ما يخبئه الغيب ، لكان خصص بعضا من ثروته لإنشاء “جائزة الكذب” ، وجعلها حكرا على “ترامب” وأمثاله ، وهو ما لم يرد ببال ولا على خاطر “نوبل” ، الذى أوصى تكفيرا عن ذنوبه بتخصيص غالب ثروته لإنشاء “جائزة نوبل للسلام” ، التى لا يكف “ترامب” أبدا عن طلبها لنفسه ، ويكرر بغير ملل ولا كلل أنه صانع السلام ، وأنه أنهى سبع حروب فى سبعة شهور من توليه رئاسته الثانية لأمريكا ، بينها حروب لم تقم أبدا إلا فى خياله ، مثلما زعم عن إنهائه حربا بين مصر وأثيوبيا ، وهى حرب لم تنشب إلا فى هلاوس “ترامب” ، فلم تحدث أى مواجهة عسكرية بين القاهرة وأديس أبابا إلى اليوم ، اللهم إلا إذا كان يقصد أنه يريد أن تقوم هذه الحرب ليطفئ نارها (!) ، أضف ما قاله عن تدخله لوقف حرب إيران و”إسرائيل” ، مع أنه هو نفسه كان طرفا مباشرا فى الحرب ، ثم هو يحدثك عن حروب خمدت منذ سنين ، وينسب لنفسه الفضل فى وقفها ، رغم أنه لم يكن موجودا كرئيس لا وقت الاشتعال ولا وقت الزوال ، على طريقة جمعه لرئيس أذربيجان ورئيس وزراء أرمينيا فى حضرته “البهلوانية” ، والتقاط صور تذكارية فى المكتب البيضاوى ، وهو ذات مافعله مع قادة دولتى “روندا” و”الكونجو الديمقراطية” ، وادعاء أنه ـ أى “ترامب” ـ أوقف حربا أهلية قبلية عبر الحدود متصله من عشرات السنين ، رغم أن نزاع الدولتين هدأ قبلها باتفاق رعته دولة قطر ، ثم تصل مشاهد الكذب الكوميدى إلى ذروتها ، مع مازعمه “ترامب” عن دوره الحاسم فى وقف اشتباك حربى دام لأيام بين الهند وباكستان ، وكانت الهند هى التى بدأت بإطلاق النار ، وظهر فى الاشتباكات الجوية مدى التفوق الباكستانى المدهش بأسلحة صينية ، ثم تجاوب المتحاربان مع مساعى دبلوماسية متعددة الأطراف ، لكن “ترامب” يرى أنه وحده الذى أوقف الحرب القصيرة ، وتوالت اتصالاته مع صديقه القديم “ناريندرا مودى” رئيس وزراء الهند ، وطلب من “مودى” ترشيحه لنيل “جائزة نوبل” ، وهو ما رفضه “مودى” علنا ، ونفى أن يكون للرئيس الأمريكى دور فى وقف الحرب ، ورد “ترامب” بفرض رسوم جمركية عالية بنسبة 50% على الواردات من الهند ، واتهم “مودى” بالخيانة والتحالف مع الصين وروسيا . ولم ينس “ترامب” خصومته الداخلية مع سلفه “جو بايدن” ، وراح يصفه بأبشع النعوت من فوق منبر الأمم المتحدة ، ويكيل لنفسه المدائح ، وأنه أوقف سيل الهجرة غير المنظمة إلى أمريكا وجعلها “صفرا” ، وحمى من أسماهم بالمواطنين الأمريكيين الأصليين ، رغم أن أمريكا بالبداهة هى أصلا دولة مهاجرين ، وأن “ترامب” نفسه من سلالة مهاجرين ، وقبل أيام من وقفته على منبر الأمم المتحدة ، كان يزور بريطانيا تلبية لدعوة ملكية ، وتفاخر بأن والدته ولدت وعاشت فى “اسكتلندا” البريطانية (!) ، وهو ما كشف نزعته العنصرية الاستعلائية فى تصنيف المهاجرين ، فهو يرى كجماعته ، أن أمريكا ملك حصرى لجماعة “الواسب” ، أى البيض الأنجلوساكسون البروتستانت دون غيرهم ، فهم رعاة البقر الذين أبادوا سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر ، وهو يريد إغلاق باب الهجرة على من هم دونهم ، وبدت القصة ظاهرة فى فقاقيع كلماته فاجرة الكذب ، حين زعم أن الدين المسيحى هو الوحيد الذى يجرى اضطهاده فى العالم ، وأن الشريعة الإسلامية تحكم لندن بسبب عمدتها ذى الأصل الباكستانى “صديق خان” ، رغم أنه لا أحد عاقل يصدق أن شخصا بسلوك “ترامب” وسيرته ، يمكن أن يكون مثالا على صلاح دينى من أى نوع ، وبدت همجيته أكثر ظهورا مع دعوته لأوروبا أن تحذو حذوه ، وأن تطرد مهاجريها جميعا ، وبالذات من ذوى الأصول الملونة ومن المسلمين بالذات . وفى أوكازيون و”بوفيه” الكذب المجانى ، راح “ترامب” يسخر من العلم والعلماء ، ويكذب كل أحاديث ودراسات التغير المناخى والاحترار العالمى ، ويمحو بجرة لسان كل مساعى الاقتصاد الأخضر والبيئة النظيفة ، ويدعو أوروبا إلى ترك مصادر الطاقة المتجددة ، ويظهر حماسا لمصادر الطاقة التقليدية الأحفورية ، ودون أن يكشف السبب الحقيقى “التجارى” لاستهزائه بطاقة الرياح وطاقة الشمس ، فهو يريد لأوروبا أن تشترى كل حاجاتها من البترول والغاز الطبيعى من أمريكا حصرا ، وأن تكمل انصياعها لرغباته ، وأن تدفع أكثر لواشنطن ، وقد فعلت أوروبا لسنوات طويلة فائتة ، ودمرت اقتصادها لشراء خاطر أمريكا ، ودفعت أسعارا لشحنات الغاز الطبيعى المسال الوارد عبر المحيط الأطلنطى ، وبما يفوق ستة أمثال ما كانت تدفعه لشراء الغاز الطبيعى المتدفق عبر الأنابيب من روسيا ، ولم يخف “ترامب” رغبته فى توقف أوروبا تماما عن استيراد البترول والغاز الروسى ، وعبر عن ضيقه المكتوم والظاهر من التفوق الصناعى والتجارى الصينى ، وادعى أن الصين هى التى تخوف أوروبا من تغيرات المناخ و”بصمات الكربون” ، وادعى أن أمريكا بقيادته “القوية” تخلصت تماما من هذه المخاوف ، واجتذبت فى تمانية شهور نحو 17 تريليون دولار استثمارات صناعية ، وهو رقم فلكى من تهيؤات “ترامب” ، وما من مصادر أمريكية يعتد بها تؤكد الرقم الخرافى ، فمعدلات التوظيف الشهرية آخذة فى التناقص ، والإحصاءات المعلنة لآخر الشهور تقول ، أن عدد الوظائف المستجدة نزل إلى 20 ألفا شهريا ، وقد أطاح “ترامب” بالمسئولة عن إعداد الإحصاء ، وكان ذنبها أنها قالت كلاما لم يعجب الطفل الشايب ، كذنب خبراء الاقتصاد الذين حذروا من أحوال الركود ، ومن قرارات “ترامب” المنحازة لقلة الأثرياء والمليارديرات ، وبينهم عائلته التى كسبت ثمانية مليارات دولار فى الثمانية شهور الأخيرة وحدها ، إضافة للسخرية المريرة من احتقار”ترامب” للعلم ، ومشهورة هى نصيحته الجهولة للمصابين بوباء “كوفيد ـ 19” بشرب “الكلور” من أجل التعافى بسرعة ، وقد كانت أمريكا مع نهاية عهده الأول أكبر ضحية للوباء العالمى ، وهو ما يعتبره “ترامب” ـ ضمنا ـ مصدر فخر عظيم (!) ، ربما لأن أغلب الضحايا كانوا من ذوى الأصول الأفريقية واللاتينية . نعم ، “ترامب” يكذب ، ويعرف أنه يكذب ولا يبالى ، وكل ما يعنيه أن يواصل تقديم فقرات “البلياتشو” على أى مسرح يصادفه ، ويتصور أن أكاذيبه هى الحق المبين ، ولا نهاية للأمثلة على كذبه التلقائى أو المستعار ، خد عندك ـ مثلا ـ ما قاله عن عاصفة اعتراف دول غربية كبرى بالدولة الفلسطينية طبقا لإعلان “نيويورك” الشهير ، فلم يجد ما يقوله سوى استعادة أكاذيب “بنيامين نتنياهو” و”سموتريتش” و”بن غفير” ، وهاجم الاعترافات بدعوى أنها مكافأة لحركة “حماس” ، مع أن الإعلان المعترف بالدولة الفلسطينية طبقا لنصوصه ، يذهب إلى استبعاد “حماس” بالذات من كل شئ يتعلق بالدولة الفلسطينية المفترضة ، وإلى نزع سلاحها وسياستها تماما (!) ، ولأن ثقافة “ترامب” سماعية غالبا ، ولأن جرأته فى الكذب لا تبارى ، فقد اختار أن يكذب باسم الدولة العظمى التى يترأسها ، ولم يجد فى نفسه حاجة لتأليف سبب يخصه ، واكتفى بنقل كذبة “نتنياهو” حرفيا ، مع كلام “ببغاوى” عن السلام الذى تفرضه القوة ، فلا يقنع أحدا .